يبدو أن الجهل أصبح وباء فايروس له صولة كل مرحلة زمنية ، فالمجتمعات المحصنة تسلم منه والمجتمعات غير المحصنة تعاني منه ، نحن نعيش فترة ظلامية يغزونا الجهل أكثر من أي وقت مضى ، غزوة تدمر العقول وتنهي جمالية الحياة ، باتت مجتمعاتنا تعاني من الجهل بشكل يفوق كل المعاناة الأخرى ، فكل المعاناة يمكن ترميمها وإعادة الحياة إليها إلا الجهل فلا علاج ينفع ولا دواء يشفع . كيف غزانا الجهل ؟ هل بسبب الإستعدادات الكامنة في تركيبتنا ؟ قد يكون ذلك ممكناً ولكنه يبقى محدوداً جداً ، هل بسبب تطور التكنلوجيا ؟ لو كان كذلك لغزى الجهل عقول الشعوب التي صنعت التكنولوجيا . هل بسبب الدين ؟ هناك الملايين من المتدينين هم أهل العلم . هل بسبب الحروب ؟ هذه كوريا واليابان والمانيا أمامكم خرجت من الحرب العالمية الثانية خربة وأنقاض وتخرجت معها أجيال تتلاقف العلم والمعرفة . هل الجهل بسبب الكوارث الطبيعية ؟ الكوارث الطبيعة تدمر البيوت والمنشات والحقول ولا تدمر العقول بل تقوم العقول بتقليل أضرارها . إذاً هو سؤال محير لكنه ليس من المستحيل إيجاد الإجابة عليه وسنعرف من أين وكيف غزى الجهل عقول أبناء مجتمعاتنا ؟. هناك حقيقة يجب أن نمر عليها قبل الخوض في مثل هذه المواضيع الحساسة ألا وهي أن نعترف بأننا مجتمعات ذات طبيعة استبدادية ، فالأب يعامل أولاده باستبدادية ، الرجل يعامل زوجته باستبدادية ، الأطفال يتم معاملتهم باستبداد ، المسؤول يعامل المواطن باستبدادية ، الضابط يعامل الجندي باستبدادية ، المرأة تخضع لقوانين مجتمعية ضاغطة مستبدة ، بشكل مختصر كل قوي أو أعلى يعامل الأقل أو الأضعف باستبدادية ، المجتمع نفسه مستبد مع كل فرد من أفراد المجتمع بسبب القوانين الاجتماعية الموروثة وبسبب الخوف على السمعة وبسبب الخوف من الشماتة واللوم ، هذه الاستبدادية تقتل الحرية عند الإنسان ، حرية الإنسان مفتاح الوعي والإدراك ، من المستحيل أن تنمو المعرفة والوعي عند الإنسان في غياب الحرية ، نحن نتحدث كثيراً عن الحرية ونتألم على أحوال العبيد لفقدانهم الحرية لكن بالحقيقة نحن مقيدون في كل شيء ولا نمتلك من الحرية شيء ، عندما نحصل على جزء من الحرية نعبث بها ، الحرية التي توفرت لنا في منصات التواصل الاجتماعي تحولت إلى مهاترات وسباب ولعنات وبذاءة ألفاظ لأننا لسنا أحراراً من الأساس فتفجرت الحرية عندنا بطريقة سلبية ، الحرية التي أعطيت لمسؤولي وموظفي الدولة تحولت إلى سرقات وفساد ، حرية حمل السلاح تحولت إلى فوضى ، فلا نستطيع فهم الحرية ، بعضنا يفهم الحرية هي التمرد على الأخلاق ، بعضنا يفهم الحرية التمرد على الدين ، بعضنا يفهم الحرية حرية الجنس والإباحية ، وغيرها ، ولكن القلة القليلة هم الذين يفهمون الحرية حرية التفكير وحرية التعبير عن الفكر بكل شفافية ووضوح دون قيود سواء أكانت هذه القيود اجتماعية أو دينية أو حتى قانونية . عندما يولد الإنسان يولد حراً من كل شيء ثم يبدأ تدريجياً يحاط بالقيود ، بعض هذه القيود تحميه من الأضرار وتمنع عنه المخاطر وبعض أخر تجلب له الأضرار ، وللأسف القيود التي تحميه من الأضرار تتلاشى بمرور الوقت والقيود التي تجلب له الأضرار تقوى بمرور الوقت بسبب المجتمع . التزاحم المجتمعي يعزز القيود ويثبتها ، فالعائلة التي عدد أفرادها خمسة أو ستة أو أكثر يعيشون في بيت صغير وبيوت متلاصقة أو بيوت عشوائية في أحياء مغلقة ثقافياً ومادياً بسبب الفقر والحرمان فأن أول شيء سيفقدها أبناء هذه العوائل هي الحرية لأن التكدس المكاني والزماني بسبب الحرمان ستجبر الفرد أن يكون جزءاً من الكل بكل شيء حتى في طريقة التفكير ، فمثل هذا التجمع المكاني الضيق يجعل ساكنيها قطيع يقلد بعضهم بعضا . بينما العوائل التي تعيش الحالة الاقتصادية الميسورة والسكن المريح والإنفتاح المعرفي تجعل كل فرد وحتى الطفل داخل العائلة يتمتع بخصوصية في شخصيته وخصوصية في ممتلكاته وخصوصية في أذواقه واستقلالية في كيانه . وعندما يذهب إلى مدرسته المحترمة التي تدار من قبل هيئات تعليمية متمرسة ( طبعاً هذه نادرة في مجتمعاتنا المحرومة ) يتعلم بشكل علمي أمور تهم حياته وجوهرها الحرية ، هاتين المتلازمتين ( البيت والمدرسة ) تضعان الطفل على سكة الحرية التي تجعل المعرفة والوعي والعلم محطات في طريقه ينال منها ما يشاء وهذه أيضاً معدومة عند غالبية ابناءنا ، إذاً مقومات الحرية المادية والمعنوية هي مفقودة من الأساس في مجتمعاتنا لذلك فعندما يغزو الجهل عقول الناس يجد الطريق ممهداً بلا مصدات ولا موانع توقفه بالضبط كفقدان الجسم للمناعة تمهد الطريق لمختلف الأمراض التي تتلاعب بالجسد .. الدراسات الاجتماعية في العالم المتقدم الخاصة بشؤون الأطفال وجدت بأن حرية التفكير للطفل وخاصة الأطفال تحت الخامسة من دون الإكراه تنمي عقل الطفل بنسبة عدة أضعاف قياساً للطفل الذي يتعرض للقيود المجتمعية ، وهذه واحدة من كوارث مجتمعاتنا عندما نصنع أطفالاً فيهم الجاهزية لتقبل الخرافة والجهل والتخلف لأننا نظن بأننا نفعل ذلك من باب الحرص ، وهذه هي النتيجة أمامكم جيوش من الجهلاء تعج بهم مجتمعاتنا ، لهم القدرة على الأستجابة لكل موجة جهل … من أسوأ مخلفات الجهل هو أن الجاهل لا يدري بأنه جاهل فينكفأ ولا يحشر نفسه فيما لا يعلم فيجنب الناس شر جهالته ، فبسبب عدم علمه بجهالته يصبح ناصح أمين وناقد قدير وحاشر أنفه بما لا يعنيه فتصبح جهالته كارثة على نفسه وعلى المجتمع ، ولنتخيل بأن هذا النوع من الجهل المؤذي يمثل غالبية المجتمع ويسند بعضه بعضا فتتكون كتلة أشبه بالكرة الثلجية تكبر كلما تدحرجت … وختاماً غزوات الجهل تأتي بعدها الفتوحات الكارثية نحو التخلف فتصبح الغزوات فتوحات .