ليلة شتوية باردة- عباس سرحان 

 

منزلهم المبني من القصب، يتوسط مروجا خضراء كجزيرة تحتضنها المياه. الجداول تحيط بالقرية، ومياهها لرقراقة تعكس ضوء الشمس في النهار، ووميض القمر في الليالي الصافية.

الرياح تمرّ بين القصب وتعزف ألحانًا حزينة، لكنّ الدفء يسكن قلوبهم الدافئة، فلا يشعر أحد بوحشة المكان.

أحمد، الابن الأوسط في العائلة، يجلس دائمًا بجوار والده قرب الموقد بينما تواصل والدته تغذية النار الحطب الجشب.

يصغي احمد لوالده بشغف، يغمض عينيه كلما ذكر الطنطل، ثم يضحك عندما يطمئنه أبوه بأن لا شيء يلحق به الأذى طالما ظل في حضنه.

يحب الشتاء رغم قسوته، يحب الالتفاف حول النار، رائحة الطعام الذي تطهوه أمه، وحكايات القرية التي لا تنتهي.

لكن الأيام لا تبقى كما هي. يرحل والده أولًا، ثم تتبعه أمه، وكأن الحزن سلسلة لا تنكسر.

الحرب تأتي كوحش جائع، صدام يأمر جيشه باجتياح الحدود الايرانية.

الحرب تمزق العائلة كما تمزق القرية. يتفرّق الإخوة، بعضهم يختفي، بعضهم يهاجر، والآخرون يسقطون تحت رحى القذائف.

أحمد يبقى وحيدًا، يحرس بيتًا أشبه بظل ماضٍ جميل، جدرانه متهالكة، وموقده بارد.

لا أحد يعرفه في القرية، ولا يعرف هو القرية. الشوارع التي تمتلئ بصوت الأطفال، تتحول إلى خراب يملأه الغبار.

الأزقة التي كانت تحمل رائحة خبز الرز والسمك المشوي، تفوح منها رائحة الموت. لا موقد، لا دفء، لا يدٌ تمتد إليه كلما عاد.

يتردد على المقبرة أكثر من بيته. يقف أمام قبور أهله، يتحدث إليهم كأنهم ما زالوا هنا، يخبرهم عن الأيام، عن الحنين الذي ينهشه، عن الوحشة التي صارت رفيقته. لكنه في كل مرة يغادر وهو أشد وحدة.

في إحدى الليالي، حيث البرد قاسٍ كالسكاكين، يجلس في بيته القديم، أمام الموقد الذي لا يوقده أحد.

يحمل بين يديه صورة قديمة لأسرته، يمسح عنها الغبار، ينظر إلى ألسنة اللهب المتراقصة في خياله، يتذكّر ضحكاتهم، دفء حضن أمه، صوت والده وهو يروي الحكايات.

يغمض عينيه طويلًا، وكأنما يريد أن يحفظ تلك الذكريات في قلبه إلى الأبد.

في الصباح، حين تشرق الشمس على القرية المنسية، يبقى هناك، جالسًا في زاويته المعتادة، الصورة بين يديه، وابتسامة هادئة على شفتيه. الموقد يظل باردًا… وأحمد ينام نومًا بلا عودة، كأنه يلتحق أخيرًا بمن يفتقدهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *