في الوقت الذي كان فيه الكورد يقاومون قهر البعث، كان هناك من يتطوع، لا كخصمٍ شريف، بل كصدى أجوف يردد ما يلقن له من فوق. كانوا أبواقًا للنظام، ينفخون في بوق العبودية، يسبّحون بحمد الحزب القائد، ويصفقون حتى تتورم أيديهم لكل جريمة ترتكب ضد الكورد، وكأنهم مجموعة ممثلين رديئين في مسرحية دموية لا نهاية لها. هؤلاء، الذين كانوا بالأمس أدوات النظام في تشويه صورة الكورد، لم يختفوا بعد سقوطه، بل استمروا ولكن برداء جديد، وأكثر سذاجة.
لقد كان النظام البعثي، ومنذ نشأته، مهووسًا بفكرة العدو الداخلي. كان بحاجة إلى شماعة، إلى “آخر” يحمّله فشل مشروعه “القومي” المهترئ، ولم يكن هناك أفضل من الكورد لهذا الدور. لم يكن الأمر مجرد اضطهاد سياسي أو عسكري فحسب، بل امتد إلى صناعة خطاب كامل يهدف إلى شيطنة الكورد وتصويرهم ككيان دخيل، مشبوه، متآمر بطبيعته. في هذا المسرح العبثي، لعب هؤلاء الأتباع دورهم بإتقان؛ يصرخون بشعارات مكتوبة لهم مسبقًا، يشوهون الحقيقة، وينبحون كما تشاء السلطة، لا كما تقتضي الوقائع.
لكن المثير للشفقة أن سقوط البعث لم يكن سقوطًا لهم. فقد وجدوا أنفسهم في مأزق وجودي: كيف يعيشون بدون سيد يأمرهم؟ كيف يواصلون الدور الذي اعتادوا عليه دون تعليمات تأتيهم من القيادة؟ لم يحتج الأمر وقتًا طويلًا حتى وجدوا الحل: البعث انتهى، لكن العداء للكورد يمكن أن يستمر! فلماذا لا يكونوا “ورثة” لهذا الخطاب، وإن كان تحت لافتات مختلفة؟ وهكذا، تحولوا من مجرد أدوات في يد البعث إلى “مستقلين” يمارسون الدور ذاته، ولكن هذه المرة بإرادتهم الحرة، وكأنهم يعانون من إدمان مزمن على كراهية الكورد.
إن هؤلاء، الذين يهاجمون الكورد اليوم، ليسوا سوى أشباح الماضي، يكررون نفس الأسطوانة المشروخة، لكن بدون نفس التأثير. لقد كانوا في السابق مجرد أدوات، والآن أصبحوا أدوات بلا مستخدم. تراهم يتحدثون عن الوطنية وكأنها حكرٌ عليهم، رغم أنهم كانوا في الصفوف الأولى لكل نظام مستبد مرّ على هذه الأرض. يهاجمون الكورد ويتهمونهم بشتى النعوت، رغم أن الكورد كانوا في مقدمة من وقف ضد الدكتاتورية حين كان هؤلاء يكتبون التقارير الأمنية بحق جيرانهم وأصدقائهم.
والأكثر طرافة أن هؤلاء يتقمصون أدوار الضحايا اليوم، وكأنهم لم يكونوا في يومٍ من الأيام أبواقًا تصدح بأكاذيب السلطة. بل يذهبون أبعد من ذلك، فيحاولون الآن تزييف التاريخ، وإعادة صياغته بطريقة تجعلهم أبطالًا وهميين، وكأنهم لم يكونوا مجرد أدوات صدئة في ماكينة القمع البعثية.
لكن ما الذي يريده هؤلاء حقًا؟ هل هو مجرد عداء أعمى للكورد؟ أم أنهم يشعرون بأن وجود الكورد بحد ذاته يذكّرهم بتاريخهم المخزي؟ الحقيقة أن الأمر مزيج من الاثنين. فمن جهة، هم نتاج خطاب الكراهية الذي زرعه البعث في أدمغتهم، ومن جهة أخرى، فإن رؤية الكورد اليوم وهم يواصلون مسيرتهم رغم كل شيء تثير فيهم حسدًا دفينًا، لأنهم يدركون أنهم مجرد ظلال باهتة لنظامٍ لم يعد له وجود.
هؤلاء الذين كانوا يهتفون بالأمس “بالروح بالدم” لمنظومة طاغية، يحاولون اليوم أن يعيدوا إنتاج نفس العداء ولكن بأساليب جديدة. ولكن، سيبقون كما كانوا دائمًا: مجرد صدى باهتٍ، مجرد شخصيات كرتونية فقدت كاتبها ومخرجها، تحاول أن تبقى في المشهد، رغم أن الجمهور قد ملّ من العرض منذ زمن.