سوريا: أوديسة الوجود بين صراع الآلهة الأرضية وجغرافيا الدم – بوتان زيباري

المقدمة: الجغرافيا كمسرح للأساطير الحديثة

ليست الجغرافيا مجرد حدودٍ تُرسم على الورق، بل هي جسدٌ ينزفُ تاريخاً وحكاياتٍ تتنازعها أرواحُ الإمبراطوريات السابقة والحالية. سوريا، بتكوينها العِرقي والديني المُتشظي، تحوّلت إلى لوحةٍ جيوسياسيةٍ يرسم عليها كلُّ لاعبٍ إقليمي أسطورتَه الخاصة: تركيا تُعيد إحياء أحلام “الخلافة العثمانية” بثوبٍ حديث، والسعودية تُحوِّل السلفيةَ إلى سلاحٍ جيوسياسي، والأكرادُ يحفرون بأظافرهم طريقاً نحو الاعتراف. هنا، حيث تلتقي الماضي بالمستقبل، تُختبرُ حكمةُ التحليل عبر ثلاثيةٍ فلسفية: البصيرة (الغوص في طبقات التاريخ)، والدراية (فكُّ شفرات الحاضر)، والفراسة (استبصارُ المستقبل عبر أنماط الوجود المتكررة).

البصيرة: التاريخ كسِفرٍ للتنبؤ

لم تكن سوريا يوماً ملكاً لذاتها؛ فمن الإمبراطورية الرومانية إلى المماليك، كانت دائماً جائزةً للغزاة. اليوم، يعيد التاريخُ نفسَه بلاعبين جُدد: العثمانية الجديدة التركية تبحث عن شرعيةٍ عبر خطابٍ يجمع بين الإسلام السياسي والقومية، بينما السلفية السعودية تنسجُ شبكةً دينيةً تمتدُّ من المدارس الدينية إلى ميليشيات التطرف. الأكراد، وهم سكّانُ الجغرافيا الأصليون، يدفعون ثمنَ هذه الألعاب الكبرى: فـ”حكم ذاتي الأمر الواقع” في شمال سوريا ليس سوى ورقةٍ في صراعٍ أعمق بين من يريدون تقسيمَ الكعكة ومن يرفضون حتى إدخالَهم إلى المائدة.

الدراية: تشريح الواقع عبر عدسة التناقضات

١السلفية: الوحدة الوهمية والانقسامات الحقيقية

السلفية، التي تتزيّا بثوب “العودة إلى الأصول”، هي في جوهرها مشروعٌ سياسيٌ مُقنَّع بلاهوت. انقساماتُها الداخلية (جهادية، دعوية، صحوية) تُظهر هشاشةَ الخطاب الوحدوي: فداعش، التي ولدت من رحم الفكر السلفي، تحوّلت إلى وحشٍ يفترسُ مُنشئيه. حتى السعودية، التي تصدّرُ السلفيةَ كعقيدةٍ موحِّدة، تواجهُ تمرداً داخلياً من علمائها الذين يُطالبون بمزيدٍ من التطرف أو الاعتدال، في تناقضٍ يعكس أزمةَ الهوية.

٢العثمانية الجديدة: الإسلام السياسي في قفص القومية

تركيا، التي حاولت تصديرَ نموذج “الإسلام الديمقراطي”، وقعت في فخِّ تناقضاتها: فالشعاراتُ البراقة عن الديمقراطية تتحطّمُ على صخرة القمع الداخلي للكُرد، والتدخلات العسكرية في سوريا. مشروعُ “العثمانية الجديدة” يبدو كحنينٍ إلى ماضٍ مُتخيَّل، بينما الواقعُ يُثبت أن القوةَ الناعمة التركية لا تستطيع منافسةَ العمق المالي والديني للسعودية.

٣العلمانية: الوعد المُتعثّر والضرورة الوجودية

في خضمِّ هذا الصراع، تبرزُ العلمانيةُ كخيارٍ وحيدٍ لإنقاذ سوريا من مصيرٍ طائفي. لكنّ العلمانيةَ السورية ليست نقيةً: فالنموذجُ البعثي فشل في بناء دولة المواطنة، وتحوّل إلى أداة قمع. ومع ذلك، تبقى فكرةُ الدولة المدنية (التي تفصل الدين عن السلطة دون إقصائه عن المجتمع) الحلَّ الوحيدَ لضمان تعايش الأعراق والأديان.

الفراسة: استبصارُ المستقبل عبر أنماط الماضي

التاريخُ يُعلّمنا أن الصراعاتَ الدينيةَ تُنتجُ دماراً طويل الأمد، بينما الدولُ التي تبني هويةً وطنيةً جامعةً تنجو من التمزق. سوريا اليوم أمام خيارين:

الخيار الأول: الاستمرار في كونها ساحةً لصراع النفوذ التركي-السعودي، مما سيُعمّق الانقسامات ويُعيد إنتاجَ التطرف.

الخيار الثاني: تبني نموذجٍ وطنيٍ يعترف بالتعددية (كالحكم الذاتي الكردي في إطار سوريا الموحدة)، ويُعيد تعريف الهوية السورية بعيداً عن الأيديولوجيات المستوردة.

الخاتمة: سوريا بين أسطورة الفينيق ووهم الصيرورة

هل ستُبعث سوريا كالفينيق من رمادها؟ الجواب يعتمد على قدرة النخب السورية على التحرر من ثنائية “التبعية الإقليمية” و”العزلة الدولية”. العلمانيةُ ليست عدواً للدين، بل هي الضامنُ الوحيدُ لحرية ممارسته. والسلفيةُ ليست إسلاماً، بل هي أيديولوجيا تُحوِّل الدينَ إلى سلاح. أما العثمانيةُ الجديدة، فهي سرابٌ لا يُروي عطشَ التاريخ.

المستقبلُ يطلب من سوريا أن تكتبَ أسطورتَها الخاصة: أسطورةً لا تحتاجُ إلى آلهةٍ أرضيةٍ لتحميها، بل إلى شعبٍ يُدرك أن الدمَ الذي يُراق على ترابه هو ثمنٌ باهظٌ لأوهامِ الآخرين.

بوتان زيباري

السويد

20.02.2025

3 Comments on “سوريا: أوديسة الوجود بين صراع الآلهة الأرضية وجغرافيا الدم – بوتان زيباري”

  1. تحية تقدير لكم سيد بوتان زيباري

    مقال وﻻ اروع و ﻻ اوضح لمن يريد ان يتفهم اللحظة (الحاضر اﻻن) و الذهاب نحو بناء اﻻنسان قبلكل شيئ اخر، ومن ثم بناء وطن يحمي ذلك اﻻنسان المقدس .

    ملاحظة:
    طبعا عندما اقول (اﻻنسان المقدس) اقصد به من يؤمن ببناء اﻻنسان وفق افكار الواردة في اﻻعلان العالمي لحقوق اﻻنسان، و ليس ذلك (الانسان المدنس) و الذي يؤمن بايدلوجيته (الدينية او السياسية) و اﻻقل شائنا وقيمة من قيم حقوق اﻻنسان العالمي ولكنها لدى اﻻنسان المدنس تعتبر فوق إنسانية بالتالي غير قابلة للشك و النقاش بها ابدا.

  2. سوريا: أوديسة الوجود بين صراع الآلهة الأرضية وجغرافيا الدم
    هذه الجملة تحمل طابعًا أدبيًا وتحليلًا سياسيًا، وهو عنوان لمقال الذي يتناول الوضع في سوريا من زاوية فلسفية وتاريخية:
    • “أوديسة الوجود”: تشير كلمة “أوديسة” إلى الرحلة الطويلة المليئة بالمحن، مثل ملحمة الأوديسة لهوميروس، مما يوحي بأن الوجود السوري مر برحلة معقدة مليئة بالمعاناة والتحولات.
    • “بين صراع الآلهة الأرضية”: تعبير مجازي يشير إلى القوى السياسية والعسكرية التي تتصارع على سوريا، وكأنها “آلهة” تتحكم في مصيرها، لكنها ليست سماوية بل دنيوية (قوى دولية، إقليمية، محلية).
    • “وجغرافيا الدم”: يشير إلى الخرائط السياسية والحدود التي رسمت بالدماء نتيجة الصراعات والحروب، في إشارة إلى العنف الذي أعاد تشكيل الجغرافيا السورية.

    بمعنى آخر، العنوان يوحي بأن سوريا تعيش رحلة مأساوية في ظل صراعات القوى التي تتحكم بمصيرها، بينما الجغرافيا تُعاد رسمها بالدماء.
    بوتان زيباري

  3. ”سوريا بين أسطورة الفينيق ووهم الصيرورة”
    هذه الجملة تحمل بعدًا رمزيًا وفلسفيًا في الحديث عن سوريا، حيث تدمج بين أسطورة الفينيق ووهم الصيرورة:
    1. أسطورة الفينيق: الفينيق هو طائر أسطوري يُقال إنه يحترق ثم ينهض من رماده، وهو رمز للقدرة على التجدد بعد الدمار. استخدامه هنا يشير إلى رؤية سوريا كدولة قادرة على النهوض من أزماتها المتكررة، تمامًا كما يفعل الفينيق.
    2. وهم الصيرورة: الصيرورة تعني التحول والتغيير المستمر، لكنها هنا موصوفة بأنها “وهم”، مما قد يشير إلى أن التغيير الحقيقي في سوريا إما غير موجود أو مخادع، أي أن ما يبدو تحولًا قد يكون مجرد إعادة إنتاج لنفس الأنماط السابقة.
    الجملة إذن تعكس جدلية بين الأمل في التجدد والنهوض (كما في أسطورة الفينيق) وبين التشكيك في إمكانية حدوث تغيير حقيقي (وهم الصيرورة)، مما يوحي بحالة من الحيرة أو الإحباط تجاه مستقبل سوريا.
    – بوتان زيباري

Comments are closed.