القضية الفلسطينية لم تُختطف فقط من قبل الأنظمة العروبية والإسلام السياسي، بل تم تفريغها من جوهرها الوطني لتصبح أداة في معارك النفوذ الإقليمي والدولي. لم يعد الصراع قائمًا بين شعبين على أرض، بل أصبح الفلسطينيون مجرد ورقة في لعبة توازنات القوى، تُستخدم لتبرير الدكتاتوريات العربية، وتغذية الإسلام السياسي المتطرف، وتأمين صفقات سرية بين الدول الكبرى والأنظمة التي تزعم دعم القضية. الأخطر من ذلك، أن تحوير القضية إلى صراع ديني جعل الفلسطينيين رهائن في معركة مقدسة زائفة، حيث يُضحَّى بهم في سبيل استمرار أنظمة فقدت شرعيتها، وأجندات عقائدية لم تكن يومًا معنية بتحقيق السلام ما بين إسرائيل والفلسطينيين، بل باستدامة الفوضى والاتجار بالدم.
وهو ما دفع دونالد ترامب إلى طرح خطته المثيرة للجدل، والتي تقضي بتهجير سكان غزة إلى دول الجوار، وإخلاء القطاع، تحت ذريعة إعادة إعماره وتحويله إلى منطقة سياحية اقتصادية متطورة، وهذه بداية إستراتيجية لتغيير وجه الشرق الأوسط.
في بدايات النكبة الفلسطينية، كانت المقاومة تستند إلى مفهوم مواجهة الشعب الفلسطيني للمشروع الصهيوني، وليس لمجابهة دولة إسرائيل ذات الامتداد التاريخي العريق، التي تعد موطن الأنبياء – ملوك اليهود. وهو ما كان يمكن أن يُبقي القضية في إطارها الوطني ويعزز من فرص حل سياسي يستند إلى الحقوق القومية للشعب الفلسطيني. ولكن مع تحولها من مواجهة وطنية إلى صراع ديني مُضلل، وتصاعد الخطاب الديني، الذي تبنته الأنظمة العربية والإسلاموية لاحقًا، تم تصوير القضية على أنها معركة أبدية بين الإسلام واليهودية، بدلًا من كونها نزاعًا بين طرفين قوميين.
هذا التحريف لم يكن مجرد انحراف نظري، بل أدى إلى نتائج كارثية على أرض الواقع، منها:
- شيطنة القضية الفلسطينية عالميًا، حيث أصبح يُنظر إليها كصراع ديني متطرف وليس كحركة تحرر وطني.
- إضعاف التحالفات الفلسطينية، فمن كان يمكن أن يكون حليفًا طبيعيًا للقضية في العالم أصبح مترددًا في دعمها خوفًا من ربطه بالتيارات الإسلامية المتطرفة.
- تعزيز مشروع بناء الدولة اليهودية على أرضها التاريخي، أو كما روجتها الأنظمة العربية على أنه مشروع الصهيوني، دوليًا، حيث استخدمت إسرائيل هذا التحريف لتقديم نفسها كدولة ديمقراطية تواجه أعداءً دينيين متعصبين، مما أكسبها تعاطفًا غربيًا أكبر.
لم تقتصر المأساة على تحويل القضية إلى صراع ديني، بل تم استخدامها أيضًا كأداة بيد الأنظمة العروبية لتبرير قمعها الداخلي وإطالة عمر استبدادها. منذ خمسينيات القرن الماضي، استخدمت أنظمة مثل نظام جمال عبد الناصر في مصر، وحزب البعث في سوريا والعراق، القضية الفلسطينية كذريعة لتبرير الأحكام العرفية، وإسكات المعارضين بحجة “عدم خيانة القضية”، وتحويل الأنظار عن الفشل الداخلي.
في الوقت ذاته، كانت هذه الأنظمة تتاجر بالقضية دون أن تقدم أي حل عملي. فمنذ 1948، خاضت الدول العربية حروبًا ضد إسرائيل، لم يكن أي منها يهدف إلى تحرير فلسطين بقدر ما كان محاولة لتحقيق مصالح توسعية أو تعزيز شرعية الحكام داخليًا. وكانت النتيجة أن الفلسطينيين هم من دفعوا الثمن في كل مرة، عبر مزيد من النزوح والتشريد، بينما بقيت الأنظمة على كراسيها تُزايد بالشعارات.
مع صعود التيارات الإسلامية، بدءًا من الإخوان المسلمين وحتى الجماعات الجهادية كحماس، تم توظيف القضية الفلسطينية لتوسيع نفوذ الإسلام السياسي، عبر تقديمها كجزء من “حرب مقدسة” بدلاً من قضية تحرر وطني. أدى هذا إلى:
- تدمير وحدة الصف الفلسطيني، حيث باتت المقاومة منقسمة بين مشروع وطني ومشروع ديني.
- إعطاء حكومات إسرائيل المتطرفة ذريعة أقوى للقمع، بحجة أنها لا تواجه شعبًا يطالب بحقوقه، بل جماعات دينية متطرفة.
- تحييد الدعم الدولي العلماني، فالقوى اليسارية والتقدمية، التي دعمت الفلسطينيين تاريخيًا، تراجعت عن موقفها بعد أن تحولت القضية إلى قضية إسلاموية.
نتيجة لهذا التحريف، تفككت القضية الفلسطينية وغابت الاستراتيجية الفعالة، وفقد الشعب الفلسطيني القدرة على امتلاك مشروع موحد للتحرير، حيث بات هناك:
- سلطة فلسطينية ضعيفة ومقيدة باتفاقيات أوسلو، فقدت كل قدرة على المقاومة الفعلية، واليوم في واشنطن تم إلغاء الاتفاقية بمجملها بعدما تم إفراغها من محتواها، وجلها من قبل الأنظمة العربية والإسلامية قبل الحكومة الفلسطينية وإسرائيل.
- حماس المسيطرة على غزة والتي تتبنى نهجًا دينيًا متطرفًا، ما أدى إلى عزلة القطاع دوليًا وحصار دام لعقود.
- شعب فلسطيني مُنهك بين سلطتين متصارعتين، وفاقد للقدرة على توجيه نضاله نحو هدف واضح.
وفي الوقت نفسه، ازداد التطبيع العربي مع إسرائيل، لأن الدول التي كانت تدّعي دعم فلسطين لم تكن تفعل ذلك إلا لتحقيق مكاسب سياسية، وحين رأت أن مصالحها تقتضي الاعتراف بإسرائيل، تخلت عن القضية دون تردد.
ويبقى السؤال المصيري: هل يمكن استعادة القضية إلى مسارها الصحيح؟ ربما لا يزال، والمخرج الوحيد لاستعادة القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني هو التخلي عن الطابع الديني للصراع، وتغيير الثقافة التي ترسبت على خلفية ما بثته الأنظمة في ذهن الأجيال المتتالية من الشعب الفلسطيني عن طريق تدريب وتربية منظمات متطرفة إسلامية كحماس على الحقد والكراهية، وإعادة تقديمه للعالم على أساس الحقوق المدنية والقومية للشعب الفلسطيني. فالرهان على القوى الإسلامية فشل، كما فشل الرهان على الأنظمة العروبية. وحده الحل القائم على الوطنية الفلسطينية، والانفتاح على القوى الدولية الداعمة لحقوق الشعوب، يمكن أن يعيد التوازن للقضية، بدلًا من أن تبقى رهينة صراعات إقليمية وطائفية لا تخدم إلا أعداء الفلسطينيين أنفسهم.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
12/2/2025م