ليست هناك أية علاقة بين العقل والمعتقد الديني ، المعتقد يرتبط بالجانب النفسي العاطفي الموصول بالمشاعر والروح وهذه الأشياء لا علاقة لها بالعقل فهي عالم أخر ولها خاصية جمالية من تركيبة الإنسان ، مثلما أكتشف العلماء علم النفس الذي يمثل باطن الإنسان المخفي كذلك سيكتشف العلماء يوماً ما علم خاص بجانب المعتقدات ، جميع المعتقدات وخاصة الدينية لو أخضعناها لحسابات العقل وعرضناها للنقد العقلي لظهرت لنا عيوبها بالجملة ، وهذا خطأ كبير أن ندخل المعتقد في ميزان العقل ونناقشه عقلياً وعلمياً ، فقد شاهدت أشخاصاً من الهند يمتلكون ذكاءاً خارقاً وعقولاً جبارة ولهم مكانة علمية راقية لكنهم أمام معتقداتهم يسجدون ولا يستطيعون وضع معتقداتهم بمقاييسهم العقلية لأن المعتقد ليس له علاقة بالعقل والذكاء ، وكذلك الحال التقيت مع أناس أذكياء جداً من دول أفريقية وأسيوية لهم معتقدات قد تكون سخيفة في المقاسات العقلية لكنهم يقدسونها ويبجلونها ويعشقونها كالمجانين ويخضعون لكل طقوسها بتواضع وأحترام ، ففي جميع المعتقدات حتى المعتقدات المنبوذة نجد فيها مؤمنين ذوات عقول راقية و أحياناً علماء يؤمنون بها حد اليقين ولا يسمحون لأحد المساس بها أو تدنيسها . صحيح أن هذه المعتقدات دخلت أنفسهم منذ نعومة أظفارهم لكنني أيضاً تعرفت على أشخاص أوربيون تأثروا بمعتقدات غير معتقداتهم وأعتنقوها عن رغبة شديدة وهم كبار في السن ، لذلك لا نستغرب أن المجتمعات التي من شدة إيمانها وحبها لمعتقداتها سعت أن تجعل قوانين معتقداتها هي التي تقود بلدانها ، لكنها فشلت رغم حرصها الشديد وإخلاصها الكبير لمعتقداتها ، ومع فشلها لم تجرأ أن تحّمل المعتقد سبب الفشل لأنها تؤمن بأن معتقداتها متكاملة وغير قابلة للفشل ولا تدرك بأن قيادة البلد تحتاج إلى العقل ولا تحتاج إلى المعتقد ، قد يكون المعتقد مرتبطاً بالعواطف والمشاعر أو الإملاءات الروحية أو الارتباطات الاجتماعية أو أي شيء ولكن ليس بالعقل ، طبيبان من أنجح الأطباء في الولايات المتحدة الأمريكية يعملان سوية في مستشفى واحد ويحملان عقيدتين مختلفتين متناقضتين وهما في العمل أحدهما يكمل الأخر ، فعندما يكونان في مجال عملهما تتوقف عقائديهما خارجاً لأن عملهما يستوجب حضور تركيز عقولهما فقط ، فكل شيء يحتاج إلى العقل لا يحتاج إلى المعتقد ( العلم يحتاج إلى العقل ، إدارة البلد يحتاج إلى العقل ، القضاء ، الصناعة ، الزراعة ، الطب ، التجارة ، الحروب ، الرياضة ، الفن ) كل هذه الأشياء التي ترتبط بتكوين وتطوير حياة الإنسان تحتاج إلى العقل فقط وليس للمعتقد ، هذا الوهم بأن المعتقد قادر على قيادة الحياة كلف الإنسان طوال تأريخه بحار من الدم ، وها هو التأريخ والحاضر أمامنا ينطق بالصدق ومليء بالشواهد وكل يوم يثبت لنا بأن عملية إدخال المعتقد بشؤون العقل خطيئة كبرى ، المتشددون وحدهم يريدون حشر المعتقد مع فعاليات الحياة . قد نحتاج إلى المعتقد في الحب ( حب الحياة ، حب الطبيعة ، حب الناس ، حب الوطن ) وقد نحتاج إلى المعتقد لبناء روابط نظيفة مع الأخرين وقد نحتاج إلى المعتقد لبناء الذات وتنقيتها من الشوائب ، تخيلوا أن رجل دين يستطيع جذب الملايين بكلامه المعسول وبخطبه الروحية الدينية العاطفية ولا يستطيع جذب نفر قليل لورشة عمل إذا وضعناها تحت قيادته لأن ورشة العمل تحتاج إلى خبرة عقلية وليست خبرة دينية . لذلك لابد أن يدرك الناس بأن عالم العقل والعلم هو ليس عالم المعتقد والدين ، كل له مجاله وأهميته في حياة الناس . فعندما نتحدث عن عزل الدين عن الدولة في الدولة المدنية العلمانية فأننا نعني عزل المعتقد عن العقل ، والعلمانية نتاج تجارب آلاف السنين ونتاج الحروب والمعاناة التي كان سببها المعتقد ، فهي لم تتولد فجأة ، الدولة بمفهوم النظام المدني العلماني هو نظام عقلي بحت هدفه خدمة الناس بغض النظر عن معتقداتهم وأشكالهم والحفاظ على كياناتهم والعدالة في إعطاء حقوقهم بينما الدولة بمفهوم النظام العقائدي لا تستطيع أن تخدم أحداً لإنها بالأساس هي دولة ناقصة لها أهداف السيطرة على العقائد الأخرى ، بل تدمر كل شيء يخالفها وقد يصل التدمير للمعتقد نفسه .
بما أن أصحاب المعتقدات يمتلكون العقول والذكاء حالهم حال بقية البشر فيظنون بأن عقولهم وذكاءهم هي من صلب معتقداتهم ، هذا الفهم الخاطىء أوقعهم بمتاهات لا يمكنهم الخروج منها وسببت لهم وللمجتمع مشاكل كبيرة لأنهم نسوا بأن نفس عقولهم وذكاءهم يمتلكها من لا يملك معتقداً أو قد يكون ملحداً أو من يملك معتقداً مخالفاً لمعتقداتهم ، فكيف لمعتقدات متناقضة ومتضادة تنتج نفس النبوغ العقلي؟ القضية ببساطة مجرد أن يتوصلوا إلى حقيقة مفادها بأن المعتقد ليس له علاقة بالعقل والذكاء سيتم حل اللغز ، كل له عالمه ، وكذلك لا يصح قبول من يتهم أصحاب المعتقدات بإنهم جهلاء فهذا إتهام باطل ، فمنهم عقلاء ونوابغ ، قد يكونوا جهلاء في جانب محدد ولكن ليسوا ضعفاء عقلياً ، فالأولى أن لا نخلط بين الجهل والمعتقد فليس هناك رابط بين الجهل والمعتقد مثلما ليس للمعتقد ارتباط بالعقل ، بل يحق لنا القول بإنهم لم يتوصلوا بعد إلى حقيقة مفادها عدم وجود ربط بين المعتقد والعقل بدل نعتهم بالجهلاء . فبمجرد إدراك هذه الحقيقة التي أصبحت ( العقدة المخفية ) عن الناس سيعرف الجميع بإنهم في حاجة ماسة إلى تغيير نظرتهم للمعتقد وللحياة وسيعلمون بأن مداركهم وأفكارهم هي رأسمال وجودهم في الحياة كبشر حينها ستتغير عندهم المفاهيم رأس على عقب فلم يعد بعدها خلافات واختلافات وكراهية وحروب وانتقام ، هذه هي العقدة التي نستطيع تسميتها عقدة الألم التي رافقت البشرية منذ نشوء التجمعات المدنية ، من الصعب جداً رفع الغطاء عن العقول وفهم الأمور بشكل واقعي ، لكنها الحقيقة التي ستفرض نفسها و هي التي ستنساق إليها البشرية كلها في المستقبل القريب شاءت أم أبت لأنه بالأخير لا يصح إلا الصحيح .