لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟- الحلقة الخامسة – د. محمود عباس

 

عندما تسقط دولة، تنهار الجغرافيا، لكن حين تتآكل الدولة من الداخل، وتذوب سلطتها بهدوء في أيدي كيانات غير مرئية، فإننا لا نكون إزاء ثورة، بل أمام ما هو أخطر، عصر ما بعد الدولة.

في اللحظة التي كادت فيها الرصاصة أن تُنهي حياة ترامب، كانت أسئلة جديدة تُطرح في الظل، من يحكم فعلاً؟ من يرسم السياسات؟ من يتحكم في تدفّق القرار؟ هل لا تزال السلطة في يد الرئيس والكونغرس؟ أم أن مراكز النفوذ انتقلت بالفعل إلى إمبراطوريات جديدة، تنمو بلا خرائط، وتتمدد عبر الشاشات والسيرفرات وخوارزميات بلا ملامح؟

منذ عقود، كان يُعتقد أن الدولة هي الشكل النهائي للسلطة السياسية، لكن التسارع التكنولوجي، وظهور الاقتصاد الرقمي، وتحوّل الإنسان إلى منتج للبيانات، أعاد صياغة الأسس العميقة للسيادة، ترامب لم يكن تهديدًا للنظام، بل كان جزءًا من لحظة انتقال، تُعيد توزيع أدوار الدولة التقليدية إلى كيانات أكثر مرونة، أقل محاسبة، وأكثر قدرة على السيطرة الخفية.

هذا التحول لم يمرّ من دون أن يلتقطه بعض المفكرين والساسة الكبار، فقد حذّر المفكر الفرنسي ميشال فوكو في أطروحاته عن السلطة من أن “الهيمنة لم تعد تمرّ من خلال السلاح، بل من خلال المعلومة” أما المفكر الألماني يورغن هابرماس، فرأى أن “عصر الدولة القومية يوشك أن ينقضي لصالح أنظمة غير خاضعة للمساءلة الديمقراطية” وبالفعل، فإن ما نراه اليوم ليس مجرد تصاعد في نفوذ الشركات، بل انسحاب للدولة أمام كيانات قادرة على صياغة القوانين بشكل غير معلن.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرّح مرارًا أن “من يسيطر على الذكاء الاصطناعي يسيطر على العالم” وهو لم يكن يتحدث عن الروبوتات، بل عن البنية التحتية العميقة للسلطة الجديدة، القدرة على التنبؤ، التوجيه، والتشكيل، هذا ما يجعل كل شركة بيانات منصة للنفوذ العالمي، وكل نظام تشغيل سلاحًا جيوسياسيًا.

حين نتأمل فيما حدث خلال العقدين الماضيين، نكتشف أن الشركات الكبرى، من غوغل إلى أمازون، من مايكروسوفت إلى ميتا، لم تعد تلعب دور الشريك الاقتصادي للدولة، بل أصبحت بحد ذاتها وحدات سيادية، تمتلك القدرة على مراقبة، وتوجيه، وإسقاط حكومات إن اقتضى الأمر، في زمن كورونا، كان لمنصات التكنولوجيا القرار فيمن يسمع ماذا، ومن يُسمح له بالظهور، ومن يُلغى من الساحة العامة، وفي الحملات الانتخابية، أصبحت أدواتهم أهم من صناديق الاقتراع نفسها.

لو قُتل ترامب، لكان غيابه قد شكّل فرصة مثالية لتسريع التحوّل البنيوي نحو نظام جديد، ليس لأن شخصه كان حجر عثرة، بل لأن بديله المحتمل كان سيُنتَج بما يواكب متطلبات القوة الصاعدة، ويُصاغ وفق مقاييس الدولة–الشركة. ترامب، بصوته الفوضوي وخطابه الشعبوي، كان يُؤمّن غطاءً سياسيًا مرنًا لهذا التحوّل؛ غطاء يسمح بتمرير الانتقال من منظومة الدولة إلى منظومة المنصّة، من الحُكم بالنيابة إلى الحُكم عبر البيانات.

موته، لو حدث، لم يكن ليعني فقط نهاية زعيم، بل لحظة تخلٍّ معلنة عن وهم الاستقرار التقليدي، واستبداله بتوازنات جديدة لا تُبنى على الصراع بين الأحزاب، بل على تنافس الخوارزميات، وحسابات رأس المال الذكي، ومنظومات التحكم غير المرئية. ولهذا، ورغم الغموض الذي لفّ محاولة اغتياله، فإن الحدث وضعه، على نحو مدهش، في صُلب المسار الذي يخدم النظام العصري المتصاعد؛ نظام لا يحتاج للاغتيال لإنجاز انقلابه، بل يكفيه أن يُوظّف رمزية الرصاصة لإعادة هندسة المشهد.

في هذا النظام، لا تعود وزارة الدفاع صاحبة القرار في الحرب، بل تصبح مجرد واجهة، أما القرار الحقيقي، فيُتخذ داخل مراكز تحليل البيانات، التي تتنبأ بالخطوة التالية للعدو، وتقيس الرأي العام، وتحسب التكلفة السياسية لكل خيار، وتقدّم توصياتها كما لو أنها وحي تقني لا يُناقش، السيادة هنا، لا تُمارس باسم الشعب، بل باسم الكفاءة.

ومن هنا، تصبح الدولة مجرد قشرة تُديرها إمبراطوريات الخفاء، تلك الشركات العابرة للقارات التي باتت تحدد أجندات الحكومات، وتُملي سياسات الهجرة، وتُعيد هيكلة التعليم، وتُعيد تشكيل المنظومة الأخلاقية ذاتها.

جو بايدن نفسه، حين واجه ضغوط الشركات التكنولوجية، لم يملك سوى التفاوض، لا التهديد، أما باراك أوباما، فقد حذّر في أكثر من مناسبة من قوة “الواقع البديل” الذي تصنعه منصات التواصل، مشيرًا إلى أن مستقبل الديمقراطية مهدد إذا ما استمرت الخوارزميات في تشكيل الرأي العام بلا رقابة.

وما يجعل موت ترامب، لو حدث، لحظة مفصلية في هذا التحوّل، هو أن الصدمة التي كان سيحدثها، كانت ستُستخدم لإعادة بناء السلطة بصورة أكثر مركزية، لكنها غير مرئية، كانت اللحظة المثالية لإلغاء الحاجة للوسيط البشري، وتقديم النموذج الرقمي كأداة حكم بلا انفعالات، بلا أخطاء، بلا نزوات شخصية.

لكن، هل هذه «اللا–دولة» أكثر عدلاً؟ بالطبع لا.

لأن ما يُقدّم على أنه عقلانية تقنية، يخفي وراءه شبكة مصالح معقّدة، تتحكم بها أقلية من النخب التكنولوجية التي تملك مفاتيح العالم، لم تعد الشرعية تُمنح عبر الانتخابات، بل تُصنع عبر التحكم في الوعي، ولا يعود الشعب هو مصدر السيادة، بل «المستخدم» الذي يُمنح حق الوصول إلى المحتوى، لا حق المشاركة في صناعته.

وحين تصبح كل دولة معرضة للاختراق، وكل انتخابات مهددة بالتضليل، وكل سياسة مشروطة بموافقة الخوارزميات، ندخل فعليًا زمن «إمبراطوريات الخفاء» تلك التي لا تُرسل جيوشًا، بل إشعارات؛ لا ترفع رايات أيديولوجية، بل تعيد تعريف الأيديولوجيا نفسها؛ لا تخوض الانتخابات، بل تكتب نتائجها بصمت، قبل أن تبدأ.

ومع ذلك، paradoxically، فهي التي تخلق الطفرات الكبرى في مسار التطور البشري، وتعيد تصميم الإنسان ذاته، لا عبر الأوهام، بل عبر أدوات تحسينه: في الطب، في المعرفة، في التواصل، وفي إعادة تشكيل قدراته الإدراكية.

في هذا العالم، لا يُحاسَب القادة، بل تُحدّث الأنظمة، لا يُعارض الحاكم، بل يُعطل التطبيق، ولا تُسقط السلطة بثورة، بل بتراجع في ترتيب الخوارزمية.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

11/4/2025م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *