حكومة الجولاني من برلمان بلحى إلى مقبرة مشروع الدولة – د. محمود عباس

 

ليست المفارقة أن تقوم جماعة ذات طابع تكفيري بصياغة دستور شكلي، ولا أن تحاول من خلاله إضفاء شرعية على سلطة الأمر الواقع، بل في أن يُكرّر السوريون أنفسهم المأساة ذاتها، ولكن هذه المرة بلحية! الحكومة السورية المؤقتة، التي تدور في فلك “هيئة تحرير الشام” بقيادة الجولاني، بدأت تحفر قبرها بيدها، دون أن تدرك أنها تكرر ذات الخطايا التي أطاحت بالأنظمة الاستبدادية التي خرج السوريون ضدها.

كما كانت إيران تتفاخر بأذرعها الممتدة في أربع عواصم عربية، قبل أن تبدأ بالسقوط المتسارع بعد ضربات إسرائيل المتكررة، وكما ظنّ النظام السوري أنه خالد بفضل أجهزته الأمنية وولاءاته الطائفية قبل أن تغرق البلاد في الدم، تسير اليوم حكومة الجولاني إلى ذات النهاية، ولكن بثوب ديني أكثر تشويها من سابقاتها.

فالدستور الذي صيغ مؤخرًا، وأُطلق عبره مشروع انتخابات برلمانية، ليس سوى نسخة مشوهة من دساتير البعث، ولكن أكثر صفاقة، فثلث أعضاء البرلمان تمّ حجزهم مسبقًا من قِبل الهيئة، أي من الشريحة السلفية التكفيرية نفسها التي ترتبط فكريًا وتنظيميًا بالإسلام السياسي المتطرف، ما كان يفعله حافظ الأسد بـ “الجبهة الوطنية التقدمية”، يفعله اليوم الجولاني بحكومة المعارضة المؤقتة، ولكن دون خجل أو تمويه.

المجتمع السوري، الذي يئن تحت أنقاض الخراب، بات أمام مهزلة لا تقل خطورة عن المآسي السابقة، فهل يُعقل أن يخرج السوري من سجن البعث ليقع في زنزانة “الإمارة الإسلامية” بلغة أكثر نفاقًا، ودستورٍ بوجه واحد، وشعبٍ لا رأي له؟ إن ما يحصل اليوم في دمشق، ليس إعادة بناء لسوريا، بل إعادة إنتاج لحكمٍ شمولي على الطريقة الطالبانية، وعلى حدود إسرائيل وليس حدود الصين أو روسيا، وبدعم إقليمي مباشر.

لقد أثبتت ستة أشهر من تجارب هذه الحكومة أنها لا تختلف في جوهرها عن النظام الذي ثار عليه السوريون: تكفير، إقصاء، مركزية مشوّهة، وبرلمان مفصّل على قياس السلطان، وإذا كانت طهران تنهار اليوم لأن مشروعها الطائفي اصطدم بجدار الجغرافيا والتاريخ، وإذا كانت أنقرة على وشك الاصطدام بذات المصير بسبب عنجهيتها وخوفها من الكورد، فماذا ينتظر الجولاني ليقرأ المشهد؟ هل ينتظر أن تدك إسرائيل دمشق والقصر الجمهوري، ثانية وثالثة، لتفهم حكومته أن العالم لن يقبل بكيان تكفيري على حدود دولة يهودية عصرية؟ هل ينتظر أن يُستنسخ الحشد الشعبي السني بعباءة سلفية ليصير الأمراء الجدد أكثر دموية من البعثيين؟

لا، ليس في هذه المهزلة ما يمكن تسويقه كديمقراطية، وليس في هذه الانتخابات سوى احتقار لعقول الناس، سوريا، إن كُتب لها أن تنجو، فلن تكون ببرلمان بلحى، ولا بفتاوى تُسقط نصف الشعب من المواطنة، بل بدستور عصري، يضمن الحقوق المتساوية، ويحمي الأقليات، ويؤسس لدولة لامركزية سياسية، ذات نظام فيدرالي يعترف بالشعب الكوردي وحقوقه كشريك في الوطن.

العروض الكوردية، التي طالما قُوبلت بالتهكم أو التهميش، هي وحدها التي تحمل مشروع إنقاذ فعلي لسوريا: نظام لا مركزي، حكم فيدرالي، مشاركة فعلية، لا وصاية ولا استئثار. الكورد، رغم خيانات المعارضة لهم، لم يديروا ظهورهم للثورة، ولم يسجدوا لبشار، ولم يتحولوا إلى وكلاء إقليميين لتنفيذ أجندات مذهبية، بل حملوا السلاح في وجه داعش والأسد معًا، وطرحوا مشروعًا ديمقراطيًا لكل سوريا.

على الجولاني وعرابيه أن يدركوا أن سوريا لا تحتمل نسخة جديدة من داعش بكلام معسول، ولا إمارة تحكمها النصوص بدل الدساتير، وأن برلمانه، بتركيبته الحالية، سيكون إعلان وفاة للحلم السوري، لا ميلاده، وعليهم أن يدركوا أن أمريكا، وإسرائيل، والعالم المتحضر، لن يسمحوا بقيام كيان سياسي يهدد أمنهم بأفكار تكفيرية. وحتى لو تم التسامح مؤقتًا، فإن ساعة التصفيات قادمة، ومن لا يقرأ إيران، عليه أن ينتظر مصيرًا أسوأ.

إن لم يتراجعوا اليوم عن مشروع الهيمنة السلفية، وإن لم يستجيبوا لصوت العقل القادم من شرق الفرات، ومن كل من لا يزال يؤمن بسوريا تعددية، مدنية، علمانية، فإنهم لا يحفرون قبورهم فحسب، بل يجرّون معهم كامل ما تبقى من ثورة السوريين إلى حتفها، وكأن الثورة لم تكن إلا استراحة بين نظامين دينيين، أحدهما بالعمائم والآخر باللِّحى.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

14/6/2025م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *