في قلب الشرق الأوسط المضطرب، حيث تتصارع الجغرافيا مع التاريخ، يقف الكورد أمام مفترق وجودي يحمل في طياته بذور التحرر وأشواك التبعية. إنها لحظة تشبه نافذة مكسورة بالزجاج المعتم، قد تسمح بدخول نور الاستقلال، أو تتحول إلى شظايا تجرح أحلامًا عمرها قرون. في كوردستان العراق، تتدفق عائدات النفط كدماء في شرايين الاقتصاد، لكنها سرعان ما تتجلط بفعل قرارات قضائية تذكّر بأن السيادة ما زالت رهينة في أقبية بغداد. تلك “الإعادة النفطية الفيدرالية” التي نُظمت كرقصة توازن دقيقة، تحولت إلى معركة كرّ وفرّ، حيث تتأخر الرواتب ويتصاعد الغضب، بينما تلوح في الأفق عقوبات كسياط جلد تلتف حول عنق الإقليم. لم يكن إلغاء قانون النفط والغاز عام 2022 مجرد حكم قضائي، بل كان ضربة قاضية لرئة الاقتصاد الكوردي، تاركة الإقليم يتنفس بصعوبة عبر أنبوب الهيمنة المركزية.
أما على مسرح السياسة الداخلية، فإن المشهد يشبه لوحة لفنان سريالي؛ الحزب الديمقراطي الكوردستاني (KDP) يحمل مشعل العلاقات مع أنقرة وواشنطن، بينما يلوح الحزب الوطني الكوردستاني (PUK) بورقة طهران كبطاقة عبور في أروقة السلطة. هذا الانقسام ليس مجرد خلاف سياسي، بل هو صدع وجودي يعكس هشاشة البناء الداخلي أمام عواصف الجوار. فحتى عندما أظهرت انتخابات 2024 هيمنة KDP، ظل تشكيل الحكومة رهين التأجيل، كأنما القدر يلعب بقطع الشطرنج هذه المرة على رقعة زمنية تمتد إلى ما بعد 2025. هنا تبرز السيناريوهات كأحجية مصيرية: فيدرالية غير متكافئة قد تكون جسرًا نحو شرعية دستورية، أو إعلان استقلال أحادي الجانب يحمل في أحشائه بذور العاصفة، أو انكفاء بطيء يعيد عقارب الساعة إلى زمن الهيمنة المركزية. وفي خضم هذا التيه، يبدو الدعم الأمريكي كشمعة في مهب الريح، مضيئة لكنها غير كافية لحرق ظلام التهديدات الإيرانية والتركية.
عبر الحدود، في روج آفا، تكتب المعاناة فصلها الأكثر دموية. ما بين أنقاض النظام السوري وصولوات هيئة تحرير الشام، تقف الإدارة الذاتية الكوردية كشجرة وحيدة في صحراء من العداء. لقد كان دور وحدات حماية الشعب (YPG) في محاربة داعش ملحمة بطولية، لكن الانسحاب الأمريكي المفاجئ عام 208 كشف أن التحالفات الدولية قد تكون كالسراب في صحراء السياسة. واليوم، بين تدريس اللغة الكوردية والمهرجانات الثقافية التي تشبه زهورًا نابتة بين الركام، تطل تركيا كسحابة سوداء تهدد باجتثاث كل اخضرار. التفاوض مع دمشق يلوح كخيار مرّ، لكنه قد يكون الضريبة التي يجب دفعها للحفاظ على مكتسبات ثقافية هي الأخرى مهددة بالانقراض.
إن العلاقة بين كوردستان العراق وروج آفا تشبه توأمين ملتصقين بقلب واحد؛ فكل نبضة ألم في أحدهما تتردد صدىً في الآخر. لو توحدت الرؤى الأيديولوجية بين PYD وKDP، لربما تشكلت كتلة سياسية يصعب اختراقها، لكن التنافس الداخلي يحول هذا الحلم إلى سراب. وفي النهاية، يقف الكورد أمام معادلة وجودية: إما بناء كيان قوي من خلال وحدة داخلية وتحالفات مدروسة، أو السقوط في هاوية المصالح الإقليمية المتعارضة. إنها معركة ليس فقط ضد القوى الخارجية، بل أيضًا ضد الأشباح الداخلية التي تهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي.
في الختام، فإن مستقبل الكورد في العراق وسوريا يشبه سفينةً في بحر هائج، حيث رياح الفرص تحملها تارةً نحو شواطئ الاستقلال، وتارةً أخرى تهدد بتحطيمها على صخور الهيمنة الإقليمية. إنه اختبار ليس فقط للقدرة على الصمود، بل أيضًا للحكمة في اختيار المعارك والتحالفات. ففي الشرق الأوسط، حيث تتقاطع المصالح وتتصادم الأجندات، قد يكون البقاء للأكثر مرونة لا للأكثر قوة. والكورد، بعبقريتهم السياسية وتاريخهم النضالي، أمام فرصة لكتابة فصل جديد في سجلهم الطويل من المعاناة والكبرياء، أو الوقوع مرة أخرى في فخ التشرذم الذي طالما كان العدو الداخلي الأكثر فتكًا.
بوتان زيباري
السويد