لم يكن القصف الإسرائيلي لإيران حدثًا عابرًا أو ردة فعل آنية، بل خطوة محسوبة ضمن استراتيجية بعيدة المدى تسعى إلى تحقيق هدفين رئيسيين، أولهما استراتيجي وجودي، يتمثل في إزالة النظام الإيراني ذاته، حمايةً لكيان إسرائيل من الخطر العقائدي المتجذر في بنية “نظام ولاية الفقيه” والتي تعمل على اجتثاث دولة إسرائيل بناء على الفتوى التي أطلقها الخميني في السنة الأولى من حكم الملالي. وثانيهما تكتيكي مرحلي، يُعنى بإضعاف البنية العسكرية النووية والصاروخية لطهران، تمهيدًا لإعادة رسم خريطة القوة في الشرق الأوسط.
فالصراع بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية الإيرانية لم يكن يومًا خلافًا سياسيًا تقليديًا، بل صراعًا عقائديًا مبدئيًا، تصر فيه طهران، من على منابر قم، أن وجود إسرائيل بذاته غير مشروع.
لذلك لم تكن المسألة مقتصرة على المفاعل النووي الإيراني أو الصواريخ الباليستية، بل تتجاوزها إلى مجمل المشروع الإيراني في المنطقة، بما فيه من أذرع وأدوات، من حزب الله في لبنان، إلى الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن، وصولًا إلى الفصائل الفلسطينية المرتبطة بالمحور.
ومع أن أي هدنة محتملة قد تُطرح في الأفق، فإنها لن تكون إلا مؤقتة وسطحية، لأن الجيوبوليتيكا الحاكمة لإيران وتركيا وسوريا والعراق، بحسب الرؤية الإسرائيلية-الأمريكية، تحتاج إلى تفكيك وإعادة بناء، فاستمرار النظم السياسية القائمة يعني، بالنسبة لإسرائيل، بقاء التهديد قائمًا ولو بصيغ متحوّلة.
من هنا، لا تُخفي الولايات المتحدة، حتى في حال عودتها إلى طاولة المفاوضات، نواياها في فرض شروط إضافية، تتجاوز الملف النووي إلى إلزام طهران بوقف الدعم عن أذرعها في المنطقة، كمقدمة لتجريدها من قدرتها على تهديد أمن إسرائيل أو العبث بتوازنات الدول المجاورة.
والعداء الأمريكي لطهران ليس وليد اللحظة، بل ممتد منذ أزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران خلال عهد جيمي كارتر، والعمليات الدموية التي طالت الجنود الأمريكيين في لبنان، فضلًا عن الضغط المستمر الذي يمارسه اللوبي الإيراني المعارض في واشنطن، والذي لا يقل تأثيرًا عن اللوبي الإسرائيلي في تشكيل المواقف داخل الدوائر السياسية الأمريكية.
لذلك، فإن أي عودة محتملة للمفاوضات، سواء كانت بوساطة دولية أو عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لن تكون عودة على بياض، بل مشروطة بتغيير جوهري في سلوك إيران الإقليمي، وتجريدها من أدواتها العسكرية التي تهدد إسرائيل وحلفاءها.
هنا تتقاطع أهداف إسرائيل مع أجندة أمريكية أشمل، إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، على أسس جديدة تتضمن تفكيك النفوذ الإيراني وتحييد التمدد التركي لاحقًا، وهو ما يُفسر تحرك أنقرة المبكر لخلق هدنة استباقية، قبل أن تسقط إيران كدرع أول، وتُترك تركيا في مواجهة العاصفة المقبلة، وهي التي تخشى أن يأتيها الدور بعد انهيار الجدار الإيراني.
لم تعد الجغرافيا وحدها قادرة على حماية الدول، ولا العقائد قادرة على تبرير العدوان، فما يُرسم الآن في ظلال الصواريخ والمفاوضات، هو شرق أوسط جديد يولد من رماد الأوهام القديمة، أوهام “الممانعة” التي تحولت إلى غطاء لهيمنة مذهبية، وأوهام “التحالفات المقدسة” التي بُنيت على فُتات القهر الطائفي والعسكرتاريا الدينية.
لقد أدركت إسرائيل، ومعها مراكز القرار في الغرب، أن زمن الصمت انتهى، وأن استمرار طهران كقوة عقائدية عسكرية لا يهدد فقط حدود دولة، بل يهدد بنية العالم السياسي الحديث، الذي لم يعد يحتمل طغيان المعتقد على منطق الدولة، ولا ازدواجية السلاح تحت راية الدين.
إن انهيار المشروع الإيراني، بصيغته العقائدية والعسكرية، ليس نهاية معركة بقدر ما هو نهاية مرحلة، يُطوى فيها تاريخٌ من الادّعاء الإيديولوجي، والتوسع تحت شعارات زائفة، ويُعاد فيها الاعتبار إلى قيم الدولة العقلانية، لا الدولة الرسالية- الدينية، وإلى توازن القوة الحقيقي، لا توازن الخطاب.
هكذا يتضح أن ما يجري اليوم ليس صراع دول، بل صراع تصوّرات، بين ماضٍ يجرّ ذاته كجثة ثقيلة، ومستقبل يحاول الفكاك من العفن.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
15/5/2025م