الدكتور صباح نوري المرزوك عاشق الحلة ومؤرّخ وجدانها – محمد علي محيي الدين

لم يكن الدكتور صباح نوري المرزوك مجرد باحث أكاديمي، بل كان شجرةً ضاربة الجذور في تراب الحلة، مورقةً على صفحات تاريخها وأدبها، تنبض أوراقها بسِيَر أعلامها، وتفوح أغصانها بعبير الحرف المشرَب بحب الأرض والناس واللغة.

وُلد في منطقة جبران وسط مدينة الحلة، في الثامن والعشرين من حزيران عام 1951، وعيناه تتفتحان على بيئة تنضح بالتاريخ والجمال. بدأ مسيرته التعليمية في الكتاتيب، ليشق بعدها طريقه في المدارس النظامية بين الفيحاء ومتوسطة بابل وإعدادية الحلة، حتى حط رحاله في كلية الآداب بالجامعة المستنصرية ببغداد عام 1968.

منذ أيامه الأولى، بدا أن هذا الفتى لا ينتمي لعصره وحده، بل يحمل توقًا دفينًا لاستنطاق الماضي والكتابة عنه. فغادر الوطن إلى القاهرة لينال الماجستير من جامعة عين شمس، ثم ارتحل إلى أنقرة، حيث أحرز شهادة الدكتوراه سنة 1989، في رحلة علمية تشبه رحلات الروّاد الباحثين عن كنوز المعرفة في المناجم القديمة.

عاد إلى وطنه محمّلًا بعطش العلم، فدرّس في جامعات العراق، ثم أعير للتدريس في ليبيا لعام دراسي، قبل أن يعود ويكمل مسيرته في جامعة بابل، متقلدًا منصب مدير “مركز وثائق ودراسات الحلة” بين عامي 2001 و2003. وهناك، كان أشبه بالمؤرخ الشاهد، والراوي الحيي، يلتقط تفاصيل المدينة وأصواتها من الأزقة والمجالس والكتب المنسية.

نال الأستاذية في عام 2006، ولم يغادر محراب العلم حتى لحظة رحيله. وفي العام الدراسي 2009–2010 أتيح له أن يعود إلى أنقرة أستاذًا زائرًا، كأنما عاد إلى أرض تاريخه العلمي ليجدد العهد بالقلم والبحث.

كان المرزوك ذا نفسٍ رحبة، لا يعرف التكلّف ولا الغرور، شديد الوفاء للحرف وأهله، حاضرًا في مؤتمرات العراق الثقافية الكبرى، من المربد إلى مهرجانات السياب والمتنبي وجواهريون. تجاوزت مشاركاته المئة ندوة ومؤتمر، محاضرًا ومناقشًا وراصدًا، يشهد له بذلك زملاؤه وطلابه ومحبوه. وقد أشرف وناقش عشرات الرسائل والأطاريح، وقيّم البحوث، وأجازها للنشر، وقوّمها لغويًا، فكان مدرسة تمشي على قدمين، تحمل في قلبها همّ العراق، وفي يدها مشعل الذاكرة.

أما مؤلفاته، فهي شواهد لا تكذب، بل تشهد له بأنه من أعظم من أرّخوا للأدب الحلي والذاكرة العراقية، إذ تجاوزت كتبه الخمسين، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

    “تاريخ الحركة الأدبية في الحلة 1900–1973″، و”مؤلفات الحليين المخطوطة”، و”تاريخ الصحافة الحلية”، وهي أعمال تؤرّخ لوجدان مدينة بأكملها.

    “معجم المؤلفين والكتاب العراقيين 1970–2000” (ج1–9)، عمل موسوعي قل نظيره في التوثيق.

    سلسلة “أعلام حليون” التي وصلت إلى اثني عشر جزءًا، تناول فيها سِيَرًا مشرقة منسية.

    أعمال أدبية ونقدية متنوعة مثل: “نازك الملائكة في المصادر”، و”جميل بن معمر”، و”خليل مطران”، و”النجف في الشعر العربي”، و”الأدب الأموي”، و”أصدقاء في الذاكرة”، وغيرها كثير.

    كتب في الفولكلور واللغة والبيئة الثقافية الحلية مثل: “معجم الأمثال الحلية”، و”معجم الأقوال والتعابير”، و”حليّات”، و”ما قاله الشعراء في الحلة الفيحاء”.

ترك خلفه مخطوطات كثيرة ما زالت تنتظر النشر، منها دراسات عن “فنانو العراق المعاصرون”، و”تاريخ كرة القدم في الحلة”، و”مؤلفات المعلمين العراقيين”، و”دليل المؤلفين الحليين”، و”المستدرك على معجم المؤلفين”، وغيرها.

كان عضوًا في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين والعرب، وعضوًا في جمعية الرواد الثقافية المستقلة، وشارك في النشاطات الثقافية والفكرية بمختلف أشكالها، من البيت الثقافي البابلي، إلى الجامعات، إلى المجالس الشعبية، حاضرًا لا يغيب، ومتواضعًا لا يعلو صوته على صوت المعرفة.

لكن الرحيل كان مباغتًا. ففي مساء الأربعاء 15 كانون الثاني 2014، وبين الحلة وبغداد، بعد مناقشة رسالة ماجستير بكلية اللغات، اصطدمت الأيام بعمره المتعب، وسقط الجسد، فيما ظل العقل يكتب فصوله الأخيرة. وفي صباح الجمعة، رحل، وشيعته الحلة في موكب مهيب، إلى وادي السلام في النجف الأشرف.

ولم ينطفئ الضوء برحيله، بل استحال إلى شُعلة استذكار، فأقامت له المؤسسات الثقافية العشرات من الفعاليات التأبينية، امتدت شهورًا وسنوات، من بابل إلى كربلاء، ومن اتحاد الأدباء إلى البيت الثقافي، ومن جمعية الرواد إلى جامعة بابل، حتى سُميت دورات انتخابية كاملة باسمه تخليدًا لعطائه.

إنّ الدكتور صباح نوري المرزوك ليس اسمًا يُذكر في قائمة الأكاديميين، بل فصلٌ قائم بذاته في كتاب العراق الثقافي، فصل كُتب بالحبر والعرق والدمع، وارتقى بالحلة إلى مراتب المدن التي تفتخر بأبنائها لا لأنهم عاشوا فيها، بل لأنهم كتبوها كما لم يفعل أحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *