“أوصلني الى السلطة كي أقصيك منها “- نجاح محمد علي

كاتب وسياسي مستقل ..
في السنوات التي تلت سقوط نظام صدام غير مأسوف عليه العام 2003 ، واجه النظام السياسي الجديد عدة تحديات ، بما في ذلك الاحتلال وتلاعبه بالعملية السياسية ومحاولة فرضها كأمر واقع ، الى جانب المقاطعة السنية ، ومحاولات الأكراد الانفصال تحت واجهة الاستفتاء  ، وحرب داعش وماقبلها من تفجير الحرمين العسكريين وخطر الانزلاق الى حرب طائفية. نجا العراق من تفجيرات و تهديدات وجودية ، لكنه يواجه الآن محاولة جديدة لايجاد حالة عدم استقرار من أجل الهيمنة .
جاءت مظاهرات تشرين الأول اكتوبر عام 2019 برغم مشاركة محتجين سلميين ، لتبعث رسالة مفادها أن الفوضى هي البديل ، وأن السياسة في العراق هي عبارة عن ’صراع إرادات ‘، والعملية السياسية مجرد سوق للكسب ، يدخله مَن يشاء ويخرج منه حين يشاء” وإن كانت المقاطعة والانسحاب جزءاً من العملية الديمقراطية بشرط الالتزام بشرطها وشروطها ، دون الاقدام على تقويض الأمن المجتمعي و ما يجر الى الفوضى، من شروطها.
لقد أدى السعي الى تشكيل حكومة أغلبية ليست الا حكومة الاقصاء والهيمنة ، الى ايجاد انقسام بين قطبين رئيسين داخل بيت الشيعة، وحال السجال المستمر دون تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة  في تشرين الأول أكتوبر 2021 والتي كان يفترض بها إخراج البلاد من عنق الزجاجة التي كادت أن تحشرها فيها مظاهرات تشرين بما رافقها من من عنف وقتل وتخريب وفوضى.
إذاً، فإن المخاطرة مرة أخرى بإثارة احتجاجات شعبية بين الجمهور  ، المحبط أصلاً بسبب سوء الخدمات والفساد ، وهما الملفان اللذان لايستطيع التيار الصدري ولا طرفا التحالف الثلاثي، الحزب الديموقراطي الكوردستاني وائتلاف السيادة، النأي بأنفسهم منهما.
منذ انتخابات أكتوبر تشرين الأول الماضي ، ورغم كل مساعي التزوير وتغيير نظام الانتخابات تفصالاً على المقاس من أجل الاقصاء ، لم  يتمكن أي حزب من الحصول على أغلبية برلمانية مطلقة منذ 2005 ، فتركت الأشهر الثمانية الماضية البلاد عالقة في مأزق سياسي راهن الذين خططوا له ، على ايجاد انقسام ثان ، داخل الاطار التنسيقي هذه المرة، بعد نجاحهم في تكوين قطبين : الكتلة الصدرية والاطار التنسيقي.
منذ حسم النتائج وقبول الاطار التنسيقي بها امتثالاً لقرار بهذا الصدد اتخذته المحكمة الاتحادية العليا ، ذهب سعى الاطار الثلاثي الذي تشكل خلافاً لكل السياقات والتقاليد ، إلى تشكيل حكومة بعد انتخاب الرئيس الذي لا يمكن أن يمرر الا بموافقة الإطار أو جزء منه ، وبالتالي تأكيد الهيمنة – وإبعاد الاطار على خلفية نزاع مفتعل بين رعية التيار الصدري السيد مقتدى الصدر و رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي ، وتهميشه سياسياً..
وقد حاول الصدر ترجمة ما سماها  “حكومة الاغلبية الوطنية ”  إلى محاولة لترسيخ نفسه ممثلًا عن الشيعة في السلطة ، متحالفًا مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني وائتلاف السيادة الذي تم الاعلان عنه في تركيا بدعم اقليمي لافت. رفض الصدر الإجماع الشيعي الذي يضم جميع الأحزاب السياسية والقوى الفائزة في الانتخابات  ، وبدلاً من ذلك أراد إجبار الأحزاب الشيعية الأخرى على التحول الى المعارضة الهشة التي لا معنى لها وسط هيمنة غير اعتيادية على لجان البرلمان. لكن هذا التحالف الثلاثي افتقر إلى أغلبية الثلثين المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهورية ، الذي يقوم بعد ذلك بتعيين رئيس الوزراء،  وبالتالي فشل سياسة “أوصلني الى السلطة كي أقصيك منها “.
وفي محاولة للخروج من المأزق ، أمر الصدر برلمانييه بالاستقالة . هذه الخطوة تسمح له بإلقاء اللوم على الآخرين في التأخير في تشكيل الحكومة . كما يسمح له كما يعتقد تحميل الأحزاب السياسية  مسؤولية الاخفاقات السابقة، بما في ذلك حلفاءه في الثلاثي  ، الذين لا يعتقد أنهم ملتزمون بما يكفي لحكومة الأغلبية وحاولوا القفز من السفينة قبل أن تغرق في المبادرة التي كان زعيم الحزب الديموقراطي الكوردستاني السيد مسعود البرازاني يستعد لاطلاقها بالتنسيق مع خميس الخنجر ومحمد الحلبوسي.
ومع ذلك ، ولأن البرلمان كان في عطلة ، فإن النواب الجدد الذين يجب أن يشغلوا فراغ المستقيلين ، تأخرت تأديتهم اليمين الدستورية . ونتيجة لذلك ، فإن الصدر في أصبح وضع لا يسمح له بالاستفادة من هذه الخطوة ، حيث إنها كانت برأيه ستجبر الإطار  التنسيقي على تقديم المزيد من التنازلات – مثل منحه وزارات مربحة واختياره ليسمي رئيس الوزراء – لإبقائه في النظام.
من خلال استقالة نوابه خلال العطلة البرلمانية ، يعتقد الصدر أنه يحمي نفسه أيضًا من أي رد فعل عنيف من مظاهرات الصيف التي يجري الدفع نحوها أو على الأقل التلويح بها ، حيث حاولت حركة الاستقالة إظهار عدم رضاه عن القوى السياسية . في الواقع ، إنه كان يسعى الى استيعاب المظاهرات المحتملة واستخدامها كأداة للضغط على الإطار. حتى قبل انتخابات أكتوبر ، هدد الصدر بعدم دعم أي حكومة يتم تشكيلها بدونه .
بعد أن استثمر في النظام السياسي واستفاد منه لسنوات ، انسحب من البرلمان وبقي في الحكومة والدولة ، ولن يترك الصدر هذه المكاسب  إلا إذا توصل إلى أن أفضل طريق للهيمنة السياسية هو من خلال التعبئة الجماهيرية وقلب الطاولة وتهديد السلم الأهلي .
هذه معركة للسيطرة والهيمنة ليس لها علاقة بالاصلاح .
بينما تحاول معاهد التفكير والأبحاث، و البعض من صانعي القرار في الغرب النظر إلى هذه التطورات على أنها صراع بين محورين : واحد موال للغرب وآخر لإيران ، فإن الواقع يؤكد أن الأطراف المتنافسة تتداخل في ميولها الأيديولوجية .و لكل من المعسكرين  علاقات طويلة الأمد – وإن كانت شائكة في بعض الأحيان – مع ايران والغرب. بينما يستثمر البعض في الحفاظ على التوازن السياسي من أجل الحفاظ على نصيبه من الغنائم السياسية.
عند دراسة الوضع السياسي الراهن ، يحتاج صانعو السياسة العراقيون إلى إدراك حدوث تحول مهم. فعلى الرغم من أن النظام السياسي لم يعد يواجه أزمات وجودية ، إلا أن الصراع السياسي بين الشيعة يخاطر بخلق شكل جديد من الأزمة . في هذا الصراع ، قد يفكر الصدر في نقل المعركة من البرلمان إلى الشارع ، لكن عليه أن يدرك أن دخول العملية السياسية والخروج منها في ضوء التضحيات التي تم تقديمها في طريق الانتصار على التحديات الوجودية ، هو من خصوصيات المصلحة العليا للمكون المجتمعي الأكبر الذي قدم كل تلك التضحيات ، ووفق شروطه وتوقيته، وعلى من يخالفه أن يتحمل النتائج.
في هذه البيئة التي يسودها الاستياء العام المتأجج ، تحتاج قوى الاطار التنسيقي إلى إعادة ضبط إعداداتها بسرعة تجاه قاعدة الناخبين والعراقيين المحبطين ككل . قد يكون النظام السياسي قد صمد أمام تلك التحديات التي واجهته منذ عام 2003 ، لكن عدم الرضا العام الحالي ، إذا تجلى من خلال الاحتجاج الموجه ، يمكن أن يخلق أزمة وجودية جديدة.
والمؤمن لا يٌلدغٌ من جحر مرتين.

• نجاح محمد علي كاتب متخصص في الشؤون الايرانية والاقليمية

للمتابعة على تويتر @najahmalii