التاريخ يتكرَّر ويعيد نفسه… هذا ما نسمعه، أو نقرأه، أو ننطقه، وكأنَّها حقيقة تاريخية، أو مُسلمة فكرية لا تحتاج إلى دليل، فما يتفق معها هو الصواب، وما يتناقض معها، أو يختلف عنها، هو الخطأ.
من معنى هذه العبارة، انطلقت وانشقت تعابير أخرى، كتعبير “لا جديد تحت الشمس”، وإن كان معنى هذا التعبير أشمل وأوسع وأعم من تعبير “التاريخ يعيد نفسه” ، وأما ما يُبهرني ويُحيرني (ولكن لا كثيراً) فهو إدمان كثير من كُتاب المقالات السياسية في الصحافة على استخدام عبارة “التاريخ يعيد نفسه”، متخيلين أنَّ تزيين مقالاتهم ، أو بدءها، أو ختمها، بها يمكن أنْ يزيد من قيمتها، ومن قيمتهم، أو أنْ يرفعَ من مستوى الفكر في النصِّ الذي يكتبونه.
كتب ماركس في بداية كتابه “الثامن عشر من برومير”: “ذكر هيجل أنَّ التاريخَ يعيد نفسه مرَّتين، ولكنه نسيَّ أوْ لمْ يوضح أنَّ المرَّة الأولى تكون مأساوية، والمرَّة الثانية تكون على شكل مَسخرة”.
إنَّ هيجل ، هذا الفيلسوف الألماني العظيم، هو العدو اللدود لمثل هذه المقولة “التاريخ يعيد نفسه”؛ ولقد بنى وأسَّس لمنطقٍ جديد وممتع، تخطَّى وتعدّى فيه منطق أرسطو ( الصوري) ، وجلّ منطقه الجدلي يقوم على نفي ودحض كل مقولة أو فكرة من قبيل “التاريخ يعيد نفسه”، و”لا جديد تحت الشمس”.
هذا الفيلسوف الألماني الكبير، المثالي والجدلي في طريقة تفكيره، هو من ابتكر (وصاغ) مبدأ “نفي النفي” والذي إذا ما أُسيءَ فهمه أو التفريط في فهم هذا المبدأ ، فالعاقبة حتماً ستقود إلى عبارة “التاريخ يتكررنفسه “.
يمكن توضيح هذا القانون (المعروف بالثلاثية الهيجلية) الذي ينطبق على الطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر بمثال هيجل ،(البرعم والزهرة ) ،الذي استخدمه لشرحه حيث قال : إنَّ البرعم يختفي عندما تنمو الزهرة وتحل محله ،ولكن الزهرة التي أنهت وجود البرعم لا تبقى كما هي إلى الأبد ، بلْ تأتي الثمرة وتنهي وجودها وتستبدلها .
في حياة النبتة، نشهد عملية نفي مزدوجة: النفي الأول ، تنفي الزهرة وجود البرعم الذي سبقها؛ في النفي الثاني ، تنفي الثمرة وجود الزهرة التي أنجبتها. هذا النفي الثاني هو الذي يطلق عليه هيجل “اسم نفي النفي”.
يطلق هيجل على المرحلة الأولى من حياة النبتة، التي تتمثل في البرعم، مصطلح فلسفي وهو “الأطروحة” ، وعلى المرحلة الثانية، التي تتمثل في الزهرة ، مصطلح آخر وهو “النقيض”، وعلى المرحلة الثالثة، التي تتمثل في الثمرة، مصطلح ثالث وهو “التركيب”؛ وهذه المرحلة هي مرحلة “نفي النفي” ، في الفلسفة الماركسية .
يشير هيجل إلى نقطة مهمة جداً وهي أن المراحل الثلاثة متساوية في الأهمية والضرورة ، فبدون مرحلة الزهرة ، على سبيل المثال، لا يمكن أن تنشأ الثمرة ؛ ومن الغباء أنْ يعتبر بعض الناس أنَّ الثمرة هي الحقيقة ، على سبيل المثال، وأنْ يتجاهلوا أهمية مرحلة الزهرة وكأنها الباطل .
عند نفي فكرة بأخرى أحدث، نقول أن الفكرة الأحدث أبطلت الفكرة الأولى، وقد يستنتج البعض من ذلك أن الفكرة الأولى كانت مخطئة أو زائفة ، وأن الفكرة الأحدث أوْ الجديدة هي الوحيدة التي تمثل الصواب والحقيقة.
بنفس الأسلوب، قد يرى بعض الناس أنَّ الزهرة هي الزيف في حياة النبتة، وأنَّ الثمرة هي التطور الطبيعي والصحيح.
هذه الفئة من الناس، أو من يشبهونهم، هم الذين رأوا في النظام الرأسمالي أو في الليبرالية الجديدة تحقيق نهاية التاريخ ، والحقيقة الوحيدة ، الذي بانتهاجها تلاشى الباطل، والذي هو مجاز عن الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي سبقت الرأسمالية، فأصبحت، أي الرأسمالية، كالثمرة في حيثيتها وضرورتها.
أوضحتْ الماركسية الثلاثة الهيجيلية بقانون “نفي النفي” في مثالها الشهير ” نبتة الشعير” التي بدأت بـ”حبة شعير سليمة” زُرعت في ظروف ملائمة لنموها الطبيعي، وهذه هي مرحلة “الأطروحة” ، ثم اختفت هذه الحبة (أوْ نُفيتْ) وظهرت بدلاً منها النبتة ، التي تمر بمراحل مختلفة من التغيير والتنوع حتى عادت حبة الشعير (التي أصبحت أثرا بعد عين ) إلى الحياة، وكأنَّ حبة الشعير لم تنتفِ إلَّا لتعود مرة أخرى من جديد .
هذه العودة من جديد لحبة الشعير في مثالنا ، والتي تتضمن فلسفيا مرحلة أوْ طور “نفي النفي”، والتي لا تقتصر على حبة الشعير ، بلْ نراها في كل تطوُّر وأي تطوُّر ، سواء كان في الطبيعة أوْالتاريخ والمجتمع والفكر ، إنَّ هذه العودة هي ما حيَّرت الفلاسفة، وغيرهم من رجال الفكر والعلم، ففهمها بعضهم بما جعلهم يقولون ” التاريخ يعيد نفسه ” .
بشكل هندسي، ومن منظورهم الفلسفي، ينظرون إلى التاريخ (والتطور بشكل عام) على أنه دائرة مغلقة ، حيث تموت حبة الشعير وتنبت النبتة مكانها، ثم تموت النبتة وتعود حبة الشعير إلى الحياة، أي أنَّ كلَّ شيء يرجع إلى نقطة البدء (إلى الأصل) ويصبح المستقبل عبارة عن الماضي المتكرر، فلا شيء جديد تحت الشمس .
نعم ، إنَّها عودة لا ننكرها ولكن، ليس من الممكن أن نعود إلى الماضي كما كان، ففي كل عودة هناك تغيير في الكمية والنوعية عن الأصل، أو عن بداية الرحلة، فنبتة الشعير التي نُفيتْ ، لم تعُدْ لتجد مكانها حبَّة شعير وحيدة؛ ولم تعُدْ لتجد مكانها حبَّة الشعير ذاتها، ففي هذه المرحلة الثالثة (نفي النفي ) أصبحت لدينا عشرين حبَّة شعير، على سبيل المثال؛ وكلُّ حبَّة منها تتميز، ولو بشكل بسيط عن الحبَّة الأولى في الصفات والخصائص وهذا الاختلاف ينمو ويزداد مع مرور الزمن، حتى تظهر أنواع وأجناس نباتية جديدة.
ماركس يتناول الرأسمالية من منظور قانون “نفي النفي” أو “الثلاثية الهيجلية”، ولكن لا يستند إلى هذا القانون بشكل مباشر، بل يستخدمه كأسلوب تحليلي ، يرى ماركس أن الرأسمالية هي نتيجة لنفي الوضع الاجتماعي ـ التاريخي الذي كان يسود قبلها، وهو وضع يتميز بأنَّ العامل (سواء كان حرفيا أو فلاحا) يمتلك أداة العمل التي يعمل بها ، لقد كان الإنسان في مرحلة ما يملك ما يَسْتَخْدِم من أدوات ووسائل عمل، ومن ثمَّ يَسْتَخْدِم ما يملك، فكلا حقيه في التملك والإستعمال ، كانا متِّحِدين مندمجين غير منفصلين.
هذه الأطروحة أوْ الملكية الفردية ،نُفيتْ في المصنع الرأسمالي، لم يعد العامل يمتلك أداة عمله (الآلة) بل أصبح مجرد مستخدم لها، أما مالك الآلة فهو رب العمل أو الرأسمالي.
وهذا طور النقيض تطوَّر والحال هكذا ، ومن ثمَّ أصبح ألالف العمال يعملون مستخدمين آلات ووسائل عمل يملكها شخص واحد .
وإنَّ هذا النفي لا بدَّ له، بحسب فكر ماركس، من أنْ يُنفى، فتعود أدوات ووسائل العمل التي هي الآن مصانع في ملكيتها إلى العمال؛ ولكن على نحو مختلف، وفي مستوى أعلى من التطوُّر.
في هذا التحوّل التاريخي الاجتماعي الذي هو ” نفي النفي “، يصبح العمال مالكين جماعيين (اجتماعيين) لوسائل إنتاجهم، فقد تم نفي “ملكية العاملين” بـ “ملكية الرأسماليين”، والتي تم نفيها بعد ذلك (في مرحلة “نفي النفي”)، فعاد الأمر إلى حالته الأولى، أي إلى “ملكية العاملين”؛ ولكن هذه العودة ليستْ تكرار للماضي إلّا من ناحية شكلية ، بلْ هي عودة متطورة عنه، فملكية العمال الجديدة هي ملكية جماعية وليست فردية، وتتعلق بآلات وليست بأدوات.
في الأطروحة، كان العمل والملكية متحدين بلا تناقض بينهما ، فالعامل هو المالك، والمالك هو العامل؛ لكن الرأسمالية جاءت وفرَّقت بينهما، أي انفصل العمل عن الملكية ،فأصبح العامل بلا ملكية، والمالك بلا عمل وهذا النفي الأول ؛ وفي النهاية، يظهر النفي الثاني، أو”نفي النفي “أوْ ” التركيب الهيجيلي ” ، فيعيد الاتحاد بين العمل والملكية؛ ولكن بشكل جديد (نوعياً) عما كان عليه في الأصل.
توجد الآن نوعان من الملكية، إحداهما فردية والأخرى جماعية أو اجتماعية، يتَّحِدان الآن اتِّحاداً هو الأعلى ، الناس يمتلكون بعض الأشياء بشكل خاص، مثل ما يستهلكونه، ويمتلكون بعضها بشكل عام أو مشترك، مثل ما يستفيدون منه.
في هذا المجتمع، الذي بشَّر به ماركس، يُقوَّم التناقض بين التملُّك الفردي والتملُّك الاجتماعي ؛ وتقويم التناقض إنَّما هو التغلُّب عليه والإبقاء عليه في الوقت نفسه ، وفيه، نرى هذا التناقض، أي التناقض المُقوَّم، في وحدته العليا.
التاريخ، أو التغيُّر الاجتماعي والتاريخي، يمكن فهمه بما يتماشى مع قاعدة “نفي النفي “، أو “الثلاثية الهيجلية “(التي ليس لها علاقة بثلاثية الأب والابن والروح القدس) ، وهذا الفهم هو جزء من فهم أكبر وأشمل وأعمق، هو فهم التغيُّر كله (في الطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر) كـوحدة (وصراع) متناقضات؛ وهذا الفهم يخالف فهمًا آخر أوْ من نوع آخر ، هو فهم التغيُّر كـزيادة ونقصان هنا وهناك ، وتكرار، وكأنَّ الأشياء لا تتبدَّل، وإن تبدَّلت، فإنَّها تتبدَّل في الدرجة فقط، فتكبر أو تصغر، متكررة في النوع والكيف وهذا هو الفهم الخاطيء لحركة التغيير .
إذا نظرنا بعمق إلى التاريخ وما يحمله من مسارات وأحداث، نجد أنه عبارة عن اجتماع للحركة والتطور، فهو لا يتوقف عن الانتقال إلى الأمام، أو الارتقاء إلى مستويات أعلى في سلَّم التطور ؛ وهذا الانتقال (أو الحركة) تقدمي ارتقائي الطابع ؛ إنَّه في شكله كالصعود في درجات سلَّم يشبه(السلَّم الحلزوني ) ، والتاريخ في سيره وجريانه، يشبه أيضاً، “نهر هيراقليطس”، فإنَّ أحداً لا يمكنه أنْ يسبحَ في مياه النهر نفسه مرَّتين.
الحلزونية في مسارها (أو سيرها) تنفي الدائرية والاستقامة ، فالذين يرون أنَّ التاريخ يتقدم بنفي مطلق وخالص للماضي، يظنون أنَّ كلَّ ما هو جديد في التطور التاريخي هو شيء أو حال لا يحمل فيه أي أثر للماضي، وبهذا يتم القضاء على القديم بشكل نهائي، ويأتي الجديد الذي لا يحتفظ بشيء من القديم المنفي، حتى لو كان عنصراً ضرورياً أو مفيداً أو إيجابياً ،ومن هذا الاتِّجاه الفلسفي العدمي ، بمعنى نفياً مطلقاً لكلِّ قديم ، يتفرَّع في عالم السياسة والثقافة عنه فرع العدمية السياسية والثقافية ، الذي يريد أصحاب هذا المفهوم ، ابتناء كلِّ جديد عن طريق هدم وتدمير لكلِّ قديم.
الحلزونية هي شكل التطور الذي يجمع بين الدائرية والاستقامة في تناقض جدلي. فهي تحمل في طياتها عودة متجددة إلى الماضي، ولكن بشكل مختلف وعلى مستوى أعلى، وهي تحمل أيضا معنى الصعود والتقدم إلى الأمام ، فالتاريخ والزمن لا يرجعان إلى الوراء، بل يتحركان وفق قانون الثلاثية الهيجلية.
إنَّ العودة الهيجيلية للماضي نجدها في كثير من الأفكار والنظم الاجتماعية والقانونية والفكرية .. التي ظهرت في الماضي تعود مرة أخرى بعد أن تم نفيها ومواجهتها بأفكار ونظم وحركات معاكسة، ولكن لا نستطيع أن نفهم هذه العودة بشكل صحيح إلا إذا فهمنا معنى “النفي” الذي يستخدمه هيجل.
“النفي” هو جوهر التطوُّر (في الطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر) يقوم على عملية تتجاوز الشيء القديم وتنفيه، ولكن دون القضاء عليه بشكل كامل، بل بالحفاظ على بعض جوانبه ودمجها في الشيء الجديد أوْ الحفاظ على الجوهري منه وهذا هو المعنى الحقيقي للنفي الجدلي الهيجلي، وليس نفياً بلا عودة.
في مثال بسيط ، أقول ، عندما أتناول قطعة اللحم، أقول إنني قمتُ بنفيها من وجودها؛ ولكن هل هي مفنية بالفعل بعد أن أكلتها؟ بالتأكيد نُفيتْ بشكل ما ، ولكن هذا “النفي ” شمل أيضاً معنى “الاحتفاظ”، فجسمي يستفيد من كل ما في قطعة اللحم المفنية ما يناسبه ويحتاجه في عملية الهضم والتغذية. وفي الطريقة نفسها، يمكننا أنْ نفهم “نفي” نظرية ما، أو مدرسة فكرية ما، أو عقيدة ما.
نلاحظ في تاريخ العقائد أن كل عقيدة جديدة تستبدل العقيدة القديمة المنفية بشكل جزئي، فهي ترفض ما هو سلبي في العقيدة القديمة، وتبقي على ما هو إيجابي ومناسب من عناصرها وجوانبها وأفكارها ومفاهيمها، إنَْ العقيدة الجديدة تنفي العقيدة القديمة بمعنى أنها تتجاوزها وتتفوق عليها، ولكنها في الوقت نفسه تتأثر بها وتستفيد منها وتضمنها في بنيتها وتكوينها.
هل أكون قد رجعت إلى الفكرة القديمة التي لا يقبلها عقلاني في زمننا هذا، إذا قلتُ وأنا في بداية القرن الحادي والعشرين: نعم، الأرض هي مركز الكون؟ في الماضي، كانت “الإطروحة” هي أنَّ الأرض هي مركز الكون والشمس تدور حولها ، لكن هذه النظرية تم نقضها ونُفيتْ واستبدلت بنظرية أخرى تقول أنَّ الأرض ليست مركز الكون ، ولكن اليوم، بناء على نظرية الانفجار العظيم ونظرية النسبية العامة لآينشتاين، يمكنني أن أزعم أن الأرض، بطريقة ما، هي مركز الكون، لأن كل نقطة في الكون الذي يتوسع باستمرار وبسرعة متزايدة، يمكن اعتبارها مركزاً للكون (الذي لا يوجد له مركز محدد) لحد الآن.