بَعد ما يُقارب نصف القرن بدأت الأوساط السياسية والشعبية في دول أوربا الغربية وعلى رأسها فرنسا تلمس على أرض الواقع نتائج تواجد المهاجرين على أرضها.
وكَرد فعل لما يَعيشه المواطن في تلك البلدان الأوربية في كنف التّغيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي فعلت فعلها نتيجة لهذا الإختلاط البشري الذي أثر وبحدة في الهوية الثقافية الأوربية حيث خلق المد البشري الجديد أرضية الأمر الواقع لدى المواطن الأوربي جعلته لا يستطيع إنكار ما يراه يوما بهد يوم بأم عينيه من تغيرات في مجالات حياته اليومية الأمر الذي أثار إهتمامه بل أصبح يقلقه لدرجة أصبح يرصد ما اعترى حياة وطنه من تغيرات سلبية – حسب وجهة نظره – شملت كافة مجالات حياته اليومية وعلاقات إجتماعية جعلته يشحذ تفكيره في الواقع الديمغرافي الذي تسبب في كل ماتشهده الجمهورية الفرنسية الخامسة من تغيرات خطيرة منها: بطالة، وارتفاع نسبة العنف والجرائم، وإنتشار المخدرات وتفشي الفساد في الحياة العامة طال الدوائر العامة وممارسات مخلفة للقانون بلغت حدا عاليا من التدهور.
وَعَلاوة على موجات الهجرة الكبيرة التي قصدت أوربا الغربية بعد ما عرف بالربيع العربي يزيد عبء فرنسا عن جاراتها بأنها إضطرت لقبول مواطني البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية التي إستعمرتها لمئات السنين منذ عدة عقود الأمر الذي هيأ إلى نمو التيار القومي الفرنسي الذي يتبنى مبدأ يستند إلى منطق حماية فرنسا والفرنسيين من التأثيرات الغريبة عن الثقافة الفرنسية والتي تأتي مع موجات المهاجرين أيا كانت أصولهم وبأكثر حدة المنحدرين من شمال أفريقيا والذين يشكل الجزائريون بينهم أعلى نسبة.
وما دعوة الرئيس الفرنسي السيد ماكرون إلى إجراء إنتخابات برلمانية مبكرة إلاّ لكي يقطع الطريق على التيار الفرنسي اليميني القومي الذي نال أكثرية أصوات الشعب الفرنسي في إنتخابات البرلمان الأوربي. ورغم أن الهدف من إبعاد اليمين الفرنسي المتطرف عن البرلمان قد نجحت بعد أن حققت كتلة الأحزاب اليسارية فوزا كبيرا أبعدت التيار اليميني المتطرف إلى الدرجة الثالثة إلا أن كتلة الرئيس الفرنسي ماكرون بقيت بعيدة من الفوز بالمنصب الذي يؤهلها لقيادة فرنسا.
الصّراع المُحتدم بين الكتل السياسية في فرنسا يدور حول إرجاع معظم المشاكل التي تعتري فرنسا بشكل رئيسي إلى وجود وتأثير ثقافة المواطنين المستحوذين على الجنسية الفرنسية وهجرة اللاجئين القادمين من المستعمرات الفرنسية سابقا والذين لاتنقطع أفواجهم عبر كل المعابر البرية والبحرية إلى الدولة التي استعمرت بلادهم مئات السنين ونهبت ثروات بلادهم بنهم وبدون رادع حضاري.
ولاننسى أن المهاجرين القادمين من البلدان التي كانت مستعمرة من قبل فرنسا يشعرون أن مجيؤهم إلى فرنسا هو بمثابة حق لهم على الحكومة الفرنسية ويترتب عليها أن ترحب بهم وأن تمنحهم كافة الحقوق مثلهم مثل المواطن الفرنسي الآخر.
الصراع بين الأحزاب السياسية في فرنسا شديد والقاسم المشترك سواء كان ظاهرا أو مستترا هو البطالة وتردي الخدمات العامة واتساع هوة الفروقات الإقصادية والثقافية والإجتماعية بين الفرنسيين والوافدين.
ولا تخفي أحزاب اليمين الفرنسي شعارها في ميدان المعركة السياسية والمنافسة على الإدعاء بأنها تحمل في جعبتها الدواء الناجع لكل المشاكل الإقتصادية والإجتماعية والثقافية وتعد بسن قوانين تحد من الهجرة وإبعاد المهاجرين غير الشرعيين وبالمقابل تعتمد الأحزاب الإشتركية واليسارية بكافة تسمياتها وأشكالها في إتهام اليمين الفرنسي بالعنصرية والفاشية ومعاداة المستوطنين من غير الأصول الفرنسية و بمعاداة المهاجرين والمسلمين وأنها ستعمل على إنصافهم وتسعى بذلك إلى كسب ودّهم وتَحوز على دعمهم.
هذه هي صورة الصراع السياسي في فرنسا، ولكن لا أعتقد أن فوز كتلة أحزاب اليمين الفرنسي كان سيمكنها من تحقيق أهدافها التي تعد بها في القضاء على البطالة وحل المشاكل الإجتماعية وتحقيق الإستقرار للمجتمع الفرنسي وتعيد له أصالته الفرنسية كما تدعي.
كما أرى أنه لن يكون للأحزاب الإشتراكية واليسارية القدرة على حل المشاكل الإقصادية والبطالة وإيجاد علاج لعقدة الحساسية القومية الرائجة بنسبة كبيرة في المجتمع الفرنسي تجاه الفارق الثقافي الذي جلبه معهم المهاجرون عبر عشرات العقود وأصبح هذا الفارق ينافس الثقافة الفرنسية إشهارا وجهارا في شتى مجالات الحياة اليومية وخاصة في المدن الفرنسية الكبيرة الأمر الذي يَرى فيه الكثير من الفرنسيين خطرا على هويتهم الوطنية وتهديدا لتراثهم وتشويها لحضارتهم.
فإن إفترضنا أن لَو نَجحت الأحزاب اليمينية التي حققت فوزا تاريخيا في إنتخابات البرلمان الأوربي في الإنتخابات البرلمانية الوطنية فلن تتمكن من تحقيق النجاح الذي تعد فيه الفرنسيين من تحقيقه لأسباب عديدة، كما لو تبوأت كتلة الأحزاب اليسارية والإشتراكية زمام الحكم في باريس بعد فوزها الساحق مؤخرا فإنها لن تصل إلى حد إقناع الفرنسيين بأنها قادرة على إيجاد الحلول للأزمة الإقتصادية ولمشكلة البطالة ولإيقاف الصراع الثقافي بين الحضارة الفرنسية وثقافة المهاجرين الذين يتزايدون يوما بعد يوم كما ونوعا في فرنسا وستبقى فرنسا جان دارك تدور حول نفسها في حين لن تَرى حلا لمشاكلها التي ستتفاقم سنة بعد أخرى لأن اليمين لن يَسكت ولن يغمض عينه عما يطرأ على مجتمعه الوطني والقومي من تغيرات يعتبرها دخيلة تهدد هويته وثقافته كما ستثابر الأحزاب والتكتلات اليسارية والإشتراكية مدعومة من جماهير المستوطنين والمهاجرين على نشاطها بحماس ضد اليمين.
وسواء اعتلى اليمين الفرنسي السلطة أو فاز اليسار والإشتركيون بتشكيل الحكومة فإن الفرنسيون سيبقون يتراوحون لعقود وعقود بين أمرين أحلاهما مرّ!
إبراهيم شتلو
Kurdish&Islamic Studies Association
July10th 2024