الحديث عن ضربات عسكرية إسرائيلية داخل العمق العراقي ليس جديداً، بدأه مسؤولون إسرائيليون وعززه نتنياهو حين توعّد في أيلول/سبتمبر 2018 بمكافحة إيران في العراق ولبنان، وحينها جرى حديث لايخلو من إتهام إسرائيل من قبل قادة ومسؤولين عسكريين بعد حادثة قصف معسكر آمرلي للحشد الشعبي بطائرات مجهولة عززتها نظريات تؤكد إن الضربات تحمل بصمات إسرائيلية قبل أن تتدارك السلطات العراقية الموضوع في تقريرها النهائي وتنسب الخطأ بحادثة منطقة آمرلي إلى إحتراق الوقود الصلب أدى إلى جريحين دون قتلى، لكن ذلك التقرير لم يمنع الإيرانيين من تشييع أحد قتلاهم الذي قضى نحبه في تلك الحادثة.
سواء كانت الضربات تشترك بها طائرات إسرائيلية أم لا، فإن تلك الضربات إلى وقت قريب كانت ضمن الحدود التي لاتتجاوز معسكرات للحشد الشعبي أو أماكن تخزين عتاده حيث لاتتعدى أكثر من ذلك، وتبرير ذلك أن الفاعل الرئيسي ونقصد به أمريكا كان يرسم الخطوط الحمراء للسلاح الإسرائيلي بعدم تجاوز المسموح به، فأمريكا بالنهاية هي حامي النظام السياسي في العراق وطالما تبجّحت بوجود علاقة تعاون إستراتيجي وأمني بين البلدين، لكن خيوط اللعبة تغيرت كثيراً وأصبح من الواضح أن إسرائيل لم تعد تنصاع للأوامر الأمريكية أو حتى لرغبات واشنطن، فما حدث من إغتيال لإسماعيل هنيّة رئيس حركة حماس في طهران وآخرها إغتيال حسن نصرالله يؤكد باليقين إن إسرائيل لم تعد حتى تستشير الولايات المتحدة في قراراتها، بل راحت أبعد من ذلك حين قررت التصرف بقدراتها العسكرية الخاصة من وحي ما تراه صائباً لمصالحها.
في حين كان نتنياهو يُلقي خطابه في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت طائرات سلاحه الجوي تقصف مكان إجتماع حسن نصرالله وهو تطور إستراتيجي خطير يؤشر إلى تحولات في شهية إسرائيل لتوسعة الحرب دون إنتظار العواقب.
تنصل إسرائيل وإستفرادها بالقرار دون اللجوء لأمريكا يعني أن الأمور خرجت عن السيطرة بعد أن إزداد التوحش الإسرائيلي.
في تلك القاعة للجمعية العامة للأمم المتحدة خاطب نتنياهو العراق بوصفه إحدى دول اللعنة المتحالفة مع إيران وسوريا واليمن ورفع خارطة سوداء لدول الشر كما سماها، ونستغرب من موقف الحكومة العراقية التي لم تستهجن أو ترفض هذا الوصف أو حتى تُصدر بيان إستنكار لحديث نتنياهو والأغرب والأنكى هو حضور أحد أعضاء الوفد الدبلوماسي العراقي المشارك في الإجتماع والإستماع لكلمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بالرغم من إنسحاب أغلب الوفود، مما جعل الأصوات تتعالى وتسأل عن لغز ذلك الحدث ولماذا هذا الصمت المريب؟.
دعونا لانتفائل كثيراً بالموقف الأمريكي أو نُشيد به، فأمريكا بالنهاية هي دولة مؤسسات يتحكّم بها اللوبي اليهودي، ومع إقتراب موعد الإنتخابات فإن إدارة بايدن تحرص على أن تنال أصوات ذلك اللوبي لتضمه إلى أصوات الديمقراطيين وإن الفاعل اليهودي في واشنطن هو من يصنع السياسة الأمريكية بحال إعترضوا على ما يقترفه نتنياهو أم لا.
يمتلك حزب الله أضعاف ما تمتلكه الفصائل المسلحة في العراق من أسلحة وعتاد وتجهيز لوجستي ومع ذلك إستطاعت إسرائيل أن تستهدف قادته حتى الخط الثالث، مما يؤشر إلى وجود شبكات من التجسس والعملاء داخل الحزب إستطاعت أن تزرعهم إسرائيل على مدى سنوات، كانت عملية تفجير أجهزة “البيجرز” أكبر دليل وشاهد على إختراق ممنهج ومدروس، فكيف سيكون حال الفصائل المسلحة في العراق ذلك البلد المنخور سيادياً والمنتهك أمنه وتعبث به كل مخابرات العالم بعد أن أصبح ملعباً لكراتها.
مما يبدو أن إسرائيل قررت تصفية دول المقاومة وتفكيك مفهوم وحدة الساحات للمقاومة حيث لم تعد تردعها كل القوانين الأممية أو الإنسانية أو حجم الخسائر التي تتكبدها نتيجة هذا التوحش.
كان من الممكن أن يتغير الموقف لو وجّهت تلك الساحات مجتمعة أسلحتها ضد إسرائيل، لكن يبدو أن راعية من تدّعي المقاومة قد خذلتهم.
يبقى الموقف الحكومي للعراق المتمثل برئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي يحاول مسك العصا من المنتصف من أجل أن لاتنزلق بلاده إلى حرب إقليمية قد تبتلعها، لكن إمكانات الرجل محدودة خصوصاً وإن قراره قد يُصادر في أي لحظة بعد أن أعلنت الفصائل المسلحة إنها تنتظر القرار من طهران للمشاركة والدخول في الحرب إلى جانب حزب الله في لبنان.
يتخوّف العراقيون من ضربات إسرائيلية قد تستهدف موانئ عراقية أو خزانات نفطية أو طرق وحتى محطات لتصدير نفطه في جنوب العراق ووسطه مما سيدمّر هذا البلد ويجعله عاجزاً إقتصادياً وأرض محروقة وركام بعد أن يحترق خبزه.
نتمنى أن لايتكرر سيناريو “عاصفة الصحراء” عام 1991 عندما دُمرت البُنى التحتية للعراق تحت وابل صواريخ وطائرات أمريكا التي غزت أجوائه قبل أن تغزو أرضه وتلك ما تعنيه حكايتنا.