التحول من الجهل إلى المعرفة- كامل سلمان

عندما كنت طفلاً كان تصوري بأن الأغنية التي احبها فأن الناس جميعهم مثلي يحبونها ويطربون بسماعها ، والطعام الذي استذوقه فأن الناس جميعهم مثلي يستذوقون ذلك الطعام ويتلذذون بتناوله ، وعندما كنت أحب مكاناً ترفيهياً فأن الناس مثلي يحبون هذا المكان ، وعندما أحب إنساناً فالناس مثلي وكذلك عندما كنت أحب فناناً أو فنانة . لم يكن يخطر ببالي بأن أذواق الناس تختلف ، فما احبه أنا قد لا يحبه غيري مهما كان محبوباً بالنسبة لي ، فمن كان يختلف معي كنت أنظر إليه نظرة استغراب و امتعاض ، فأتساءل أي بشر هذا الذي لا يحب الشيء الجميل الذي أحببته ، وعندما كبرت تغيرت تصوراتي ، فعرفت لاحقاً بأنني لم أكن سوى طفلاً جاهلاً غير مدرك لعقول الناس وأذواقهم وكانت تصوراتي طفولية غير منطقية ، والصحيح هو أن الناس ليسوا مثلي ، الناس اذواق مختلفة ومما زادني إدراكاً و وعياً حين عرفت بأن أفكار الناس وعقولهم وعقائدهم أيضاً تختلف وقد يختلفون في كل شيء ، فأصبحت متفهماً لأمور لم اكن أفهمها من قبل فبدأت احترم أذواق الناس واحترم توجهاتهم ولا أرمي باللوم على أحد حين يختلف معي ، فالناس أشكال مختلفة وليس من حقي أن أنظر للأخرين الذين يختلفون عني في أذواقهم نظرة استصغار أو كراهية فقط لأنهم لا يشبهون ذوقي ولا يشبهون توجهي في الحياة ، ثم أدركت فيما بعد بأن تفكيري هذا هو عين الوعي لأنني وجدت بعض الناس لم يفهموا بعد معنى أحترام أذواق ومعتقدات الأخرين لإن عقولهم لم تفارق مرحلة الطفولة فعرفت بأن الانتقال من مرحلة زمنية إلى مرحلة زمنية أخرى وأقصد من عقلية الطفولة إلى عقلية الكبر والوعي هذه تحصل لقلة من الناس ، أما الغالبية فتحافظ على نفس النمط الطفولي بل هناك من يصبح أكثر طفولية وجهالة وتتحول عنده الكراهية إلى حقد وإنتقام بمجرد أن يختلف معه أحد ، فهذه هي مشكلة بعض المجتمعات التي تعجز أن تتغير ، فلم أكن أتصور بأن هنالك نوع من الأفكار والمعتقدات هي السبب ، هي التي تمنع ذلك التحول الواعي عند الناس ( يعني العيب ليس بذات الإنسان فقط وإنما هناك أفكار وعقائد لها القدرة أن توقف التحولات الطبيعية للإنسان وتعيده بشكل سلبي إلى مرحلة الجهل ثم تحوله إلى هيكل إنسان وعقل وحش وكيان شرير ) فالإنسان الطبيعي تتحول مراحل حياته بشكل تلقائي إلى التقرب من الآخرين والتفهم لعقائد وأفكار الآخرين بشكل سلس دون تصنع ، وهذا الذي يجب أن يتحقق في حياة الناس ، هذه المراجعة للذات جعلتني أتفهم بأن الأختلاف ضرورة اساسية لتطور حياة الناس وأن احترام هذا الاختلاف واجب على كل إنسان يبحث عن حياة أفضل ومن لا يفهم ذلك فهو متخلف وإنسان سلبي مضر لحياة المجتمع ، بالرغم من أن المجتمعات المتخلفة جعلت من الاختلاف سبباً للقتل والدمار والصراعات الدامية عكس المجتمعات المتحضرة التي جعلت من الاختلاف مادة لصناعة الحياة الجميلة ، إلا أن الإنسان العاقل يتعلم من نفسه قبل غيره ، فقد تعلمت بأن اختلاف الناس عني لا يستوجب الامتعاض والكراهية بل هي أساس البناء الصحيح للمجتمع كما حصل للمجتمعات المتحضرة ، ولكن ما أثار استغرابي بأن الذين يختلف تفكيرهم عني معظمهم لا يهمهم بناء المجتمع الصحيح والدولة الصحيحة لأنهم يجهلون معنى الحب الحقيقي بين الناس وتعودوا الألفة الكاذبة والمظاهر الخداعة ، يريدون مني ومن غيري أن نكون مثلهم أو نكون راضيين بأفكارهم وغير معترضين على ما يؤمنون به لأن أفكارهم ومعتقداتهم هي الصحيحة فقط حسب وجهة نظرهم ، وإنهم يستغلون كل الوسائل والطرق لنكون مثلهم ، وكأنهم يذكرونني بأيام وتفكير الطفولة ولكن هذه المرة بشكل عدواني فالطفل لا يفكر بإيذاء من يختلف معه ، فهؤلاء لم يتعلموا من انفسهم شيء فكيف سيتعلمون من الآخرين . . طفولية العقل هذه من أكبر المشاكل التي تصاحب أصحاب المعتقدات المغلقة التي لا تنمو إلا بالدماء ، فالأفكار والمعتقدات التي تتقبل سفك الدماء تصنع هذا النوع من البشر ، فأي إنسان يريدني أن أفكر مثل تفكيره ويسخر الامكانيات والوسائل الإعلامية لفعل ذلك يترك في ذهني تساؤلاً، لماذا يفعل ذلك ؟ أن كان يفعل ذلك حباً بي وهو في سدة الحكم ، فليقدم لي أنا كإنسان ما أحتاجه في حياتي لكي أعيش حياة طبيعية مثل البشر أتمتع بالرعاية الصحية واتمتع بالعمل المحترم ووسائل الراحة والأمان ، فسأحبه وأحب معتقده حتى ولو لم ينطق بكلمة وسأتبع طريقته وطريقة تفكيره حتى ولو لم أعرف عن تفكيره شيئاً ، سأبحث كثيراً للوصول إلى السر الذي جعل من هذا الإنسان بهذه القدرة من الإيثار وبذل الجهد ليخدمني ويوفر لي سبل الراحة والأمان سأقلد حياته واعتنق أفكاره دون حاجة للطرق على رأسي ليلاً ونهاراً كي يقنعني بما يعتقد وهو يسرق حقي . لكن المشكلة تكمن هنا ، يريدني أن اكون مثله ثم أكون له خادماً مطيعاً مضحياً لكي يكون هو السيد وأنا العبد المطيع ثم يجعلني وقوداً للنار التي يوقدها ليتدفأ بها وتستمر حياته على حسابي وحساب الناس ، أليست هذه هي الحقيقة المطلقة لكل الصراعات الفكرية القائمة اليوم بين المذاهب والأحزاب والحكومات ؟

kamil.salman@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *