في المشهد المعقد لمجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، تبرز العلاقة بين إسرائيل وإيران كواحدة من أبرز تجليات لعبة التوازن والقوة فيها. تستند إلى مزيج من التحالفات والمصالح المتداخلة، حيث يسعى الطرفان إلى تحقيق مصالحها الأمنية والسياسية، وبسط نفوذ استراتيجي مستدام دون الانجرار إلى حرب شاملة والوصول إلى نقطة اللاعودة، مما يجعل الصراع مشحوناً ومليئاً بالمفارقات؛ إذ يظهر كمسرحية معقدة بين العداء العلني والتفاهمات السرية، والردع المباشر والتحركات الخفية، في مزيج يبدو وكأنه صراع بين “الوجود واللاوجود” في ساحة لا زالت مفتوحة أمام احتمالات عديدة.
في هذا السياق، تبدو إيران، التي لطالما استغلت القضية الفلسطينية كورقة سياسية لخدمة مصالحها، متجنبةً الرد المباشر على القصف الإسرائيلي الأخير. وتشير الدلائل إلى وجود تفاهمات غير معلنة بين الجانبين، بالتنسيق مع الولايات المتحدة وبعض القوى الدولية، كالصين وبعض الدول العربية التي قد تتضرر مصالحها إذا خرج الصراع عن السيطرة.
قبل تنفيذ الضربات، تبادلت الأطراف المعنية المعلومات عبر القنوات الدبلوماسية حول الأهداف، وتم إخلاء المواقع الإيرانية المستهدفة مسبقًا. وتظهر إيران بتصوير الصراع كمعركة وجودية لخداع شعوبها وحلفائها، بينما تركز إسرائيل على الحفاظ على أمنها واستقرار مواطنيها.
تتباين أهداف الدولتين بشكل جذري؛ إذ تسعى إيران إلى رفع الحصار الاقتصادي عنها، مما يمكّنها من توسيع نفوذها في العالم الإسلامي واستعادة عافيتها الاقتصادية. في المقابل، تهدف إسرائيل إلى تغيير النظرة الثقافية السائدة لدى شعوب المنطقة، سعياً للاعتراف الإقليمي وضمان استقرار طويل الأمد لشعب لهم الأحقية التاريخية في هذه الأرض.
وفي إطار هذه الديناميكيات، تضخم إسرائيل حجم الخسائر ومناطق القصف لتعزيز موقفها الأمني، بينما تقلل إيران من حجم تلك الخسائر وعدد المواقع المستهدفة لاحتواء الموقف. ويبدو أن هذا التوازن الحذر سيساهم في منع التصعيد إلى نزاع دولي شامل، على الأقل في المستقبل القريب، ويحد من احتمالات اندلاع حروب إقليمية كبيرة.
وبعد مجريات الأحداث هذه، ستكتفي إيران بدفع أدواتها في المنطقة إلى التحرك دون نية للانتصار العسكري على إسرائيل، بقدر ما تهدف إلى إنهاك تلك الأدوات تدريجيًا وتحويل دورها من قوة عسكرية إلى قوة سياسية. ويأتي هذا في إطار استراتيجية أمريكية واضحة، تسعى إلى إضعاف هذه الجماعات المسلحة، مثلما فعلتها بداعش والقاعدة وغيرهما، إلى حدّ لا يسمح لها بتهديد إسرائيل أو تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة. وفي تعقيبه على الأحداث، أوضح مستشار الأمن القومي الأمريكي أن “إدارة الرئيس الأمريكي تدعم أمن إسرائيل، وتراقب الوضع عن كثب لمنع أي تصعيد غير مرغوب فيه”، مضيفًا أن “التعاون بين الحلفاء في الشرق الأوسط أمر ضروري للحفاظ على الاستقرار الإقليمي”.
وفي الوقت ذاته، يمثل الرد الإسرائيلي ليس فقط استعراضًا للقوة أمام حزب الله وحماس، وربما الحوثيين والحشد الشعبي، والميليشيات الإيرانية في سوريا، بل تأكيد على أن مخطط القضاء على خطرهم متفق عليه مع إيران، في حال فشلت الأنظمة المحلية في كبح تهديداتهم لأمن إسرائيل.
ومن جهة أخرى، على الرغم من ادعاءات إيران المستمرة بقدرتها الدفاعية المتطورة وصواريخها المضادة للطائرات، فقد كشفت الغارات الإسرائيلية إما: عن ضعف واضح في هذه المنظومة، حيث تمكنت الطائرات الإسرائيلية من اختراق المجال الجوي الإيراني دون أي اعتراض فعلي. أو كما تشير بعض التقديرات إلى وجود تفاهمات سرية سمحت بهذا الاختراق، مما يعكس رسائل ضمنية لأدوات إيران في المنطقة ويؤكد وجود تنسيق غير معلن بين الجانبين. ففي السابق، كانت الهجمات الإيرانية على إسرائيل معروفة للأطراف الدولية مسبقًا، ويبدو الآن أن العملية قد انعكست، بحيث كانت الضربة الإسرائيلية الأخيرة ضمن علم إيران مسبقًا.
التصريحات من كلا الجانبين ليست سوى تلاعب سياسي موجه لتضليل شعوب المنطقة المتضررة. وعلى الرغم من تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن الضربات تهدف إلى “حماية أمن إسرائيل وردع التهديدات الإيرانية”، وتصريحات المسؤولين العسكريين عن استخدام طائرات F-35 لاستهداف مواقع إيرانية مهمة، إلا أن هذه البيانات لا تعدو عن كونها تغطية لما يجري خلف الكواليس. وبالمثل، جاءت ردود الجانب الإيراني لتقلل من الخسائر وتؤكد استعداد الدفاعات الجوية، مدعيةً أن “إيران تحتفظ بحق الرد في الوقت المناسب”، بينما تهدف هذه التصريحات إلى الحفاظ على صورة القوة أمام الرأي العام الإيراني.
في نهاية المطاف، وبعيدًا عن هذا التلاعب السياسي والنفاق الذي يغذي الصراعات المدمرة، تظل شعوب المنطقة هي الضحية الأكبر. إذ يدفع المدنيون الثمن الأكبر للحروب التي تشعلها الأنظمة بدافع الهيمنة دون اعتبار لمصالح الشعوب. وتستمر المجتمعات بالخضوع لتلقين ثقافي مُوجّه يُبقيها في غياب عن الوعي، مستسلمة لسلطة أنظمة تضع مصالحها فوق كل اعتبار، فيما تستمر المعاناة على حساب الاستقرار والأمان الحقيقيين.
ومن المرجح أن إيران ستحصل على بعض الامتيازات مقابل هذا التهدئة، في حين تظل تصريحاتها العلنية مجرد تغطية إعلامية لحفظ ماء الوجه وللحفاظ على هيبة النظام أمام أدواتها والشعب، الذي يقود “جبهة المقاومة الإسلامية”. لأنها أصبحت تشعر أن التصعيد لن تكون في صالحها على المستوى الإستراتيجي، قد تبلغ سوية تقسيم إيران كدولة، وحيث القوميات التي تطالب بأكثر من النظام الفيدرالي، وهي نفس الرهبة التي تحدث فيها رجب طيب أردوغان، وعلى أثرها فتح الباب لحوارات مع القائد عبدالله أوجلان وآخرين من حزب العمال الكوردستاني. كما وستتحول إيران من قوة بإمكانها أن تسلح وتجند منظمات شيعية في العالم تستخدمهم كأدوات لتنفيذ مآربها العقائدية، إلى مرجعية دينية سياسية، لتلك المجموعات التابعة للقم بالبعد التنظيمي السياسي، تنافس المرجعية الشيعية السلمية في كربلاء، المتمثلة حاليا بالسيد السيستاني.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
26/10/2024م