أحدى أسرار تطور المجتمعات الغربية هي ممارسة النقد وفهم واستيعاب تلك المجتمعات لمفهوم النقد وقدرتها على تقبل النقد واختيارها للطريقة الصحيحة للنقد ، فالنقد في حقيقة الأمر هو مشاركة عقول الأخرين في تشخيص الخطأ ومن ثم تقويم الخطأ ، النقد حياة للفرد وللمجتمع وكأن الإنسان في داخل المجتمع المتفهم للنقد يقاتل المشكلة بعقول وأفكار مختلفة ، فبالتأكيد سيكون الإنتصار حليفه وسيتطور بسرعة كبيرة ومذهلة مثلما يحصل الأن في المجتمعات المتقدمة . أن عملية فهم واستيعاب النقد وترويض النفس في التعامل مع النقد هو قمة الوعي ، ولا وعي بدون قدرة نقدية . . الإنسان أو المجتمع الذي تنقصه ثقافة النقد لا يمكن أن يتطور ولا يمكن أن يرنو إلى المستقبل . في مجتمعاتنا نعرف النقد وننطق به ونعرف أهميته ونوصي به في مجالسنا وبيوتنا وأعمالنا ولكن لا نعرف كيف نستفيد منه ولا نعرف كيف نربي أجيالنا على النقد لأننا جاهزون للنقد ولسنا جاهزين لتقبل النقد ، فقد تعودنا بأن قبول النقد هو إنتقاص وإظهار للعيوب فبذلك أجيالنا محرومة من أهم وسيلة حياتية نافعة وهي النقد . . الناقد يجب أن تكون نواياه النقدية إصلاحية ، ويجب أن تكون له القدرة على رؤية الأمور من زوايا متعددة وهذه الملكة لا تتكون في شخصية الناقد إلا بتركيبة تربوية فكرية علمية ، فمثلاً لاحظنا في مدارس بعض المجتمعات المتطورة وجود حصة تدريسية تربوية تسمى ( debate ) حيث يقوم المعلم بطرح قصة أو مشكلة فيها ظالم ومظلوم ثم يطلب من التلاميذ أن يصبحوا فريقين ، فريق يدافع عن المظلوم وفريق يدافع عن الظالم ويبحث شرعية وقانونية ظلمه ، يجب على كل فريق إيجاد المبررات في الدفاع عن فريقه ، ثم تعاد التجربة بالعكس ، هذه الممارسة تعطي التلميذ ملكة النظر للأمور ولأي قضية أو مشكلة من زوايا متعددة ولا يتأثر بسرعة ولا يميل عاطفياً مع ظواهر الأمور ولا يحكم على الأشياء إلا بعد غربلتها ، بمرور الزمن تنمو عند هذا التلميذ ملكة النقد الصحيح فتصبح جزءاً من ممارساته الحياتية ، هذه الملكة تجعل الإنسان لا يكتفي بتصديق ما يسمع من طرف واحد ولا يحكم إلا بعد أن يستوعب الأمور ولا يمتعض من النقد بل يسارع إلى دراسة الموقف الذي سبب له النقد ليتأكد من صحة الموقف ، فعندما ينتقد يعرف كيف ينتقد ومتى ينتقد وما هي النقطة الجوهرية التي يركز عليها بالنقد ، وعندما يتعرض للنقد لا يحزن ولا ينكسر بل يراها فرصة ليراجع الأسباب التي أدت إلى تعرضه للنقد فيعيد تركيبتها وتقويمها ، هذه الممارسة يتم تطبيقها في البيت والشارع وفي العمل . . ما يعيب مجتمعاتنا هو أن الناقد ينظر من الزاوية التي يعرفها أو من الزاوية التي يؤمن بها فيسارع في الحكم عليها وقد يكون نقده مبني على أساس خاطىء ، وكأننا نرى نوعين من النقد نوع بدائي متخلف لا قيمة له على مستوى الواقع كما هو حاصل في مجتمعاتنا ونوع حضاري علمي يراد منه الفائدة ، بالتأكيد سيكون النوع البدائي من النقد فاشل غير صحيح وقد يكون فيه إيذاء للطرف الأخر ..
في مدرسة النقد لا يوجد شيء أسمه نقد بناء ونقد غير بناء ، فمفردة النقد يجب أن تكون مقرونة بالمنفعة ، ويجب أن يكون بناءاً في كل الأحوال ، أما إذا كان غير نافع وغير بناء فهذا ليس بنقد ، هذا مجرد تطفل وتخريب . هناك فهم خاطىء لمفهوم النقد وتصنيفه ، فعندما نذكر مثلاً عبارة النقد الجارح ، كيف يكون النقد جارحاً فهذه إهانة بثوب النقد ، وهذا تشويه لمفهوم النقد ، لا أعلم كيف استطاع اصحاب الثقافة عندنا إيجاد هذه التصنيفات ؟ ما يجري في غالبية حواراتنا المجتمعية تحت عنوان النقد هي بالحقيقة فرض الرأي وطعن وتبادل التهم ، تأريخنا لم يخبرنا بأن احترام النقد دليل الوعي وليس للنقد وجود في ثقافاتنا وإنما كل ما عرفناه عن تأريخ وثقافة مجتمعاتنا هو ما يسمى بالنصيحة ، فتأريخنا وديننا وتراثنا متخم بالنصائح ولم تسعفنا النصائح في التحول نحو الأحسن ، والنصيحة أسلوب لا يبني المجتمع ولا يطور الحياة ، لأن النصيحة بالأساس هي أن تبقى خاضعاً للموروثات ولا تخرج عنها ، فالنصيحة لا تمر بمراحل تشخيص الخطأ ثم تحليل الخطأ ثم طرح البديل الأفضل وهذه هي مركبات النقد التي غيرت وجه الحياة بينما النصيحة بمفهومها المتوارث إجتماعياً قد تقتل الطموح وقد تقف عائقاً ضد حركة الحياة وقد تكون غير صحيحة ، مثلما عندنا الناس تنصح الرجل ليضرب أبناءه كي يتأدبوا ! ويسمونها نصيحة ، هم لا يعلمون بأن هذه النصيحة تعلموها خطئاً بإنها نصيحة وهي ليست بنصيحة ، فمتى يكون لنا حظاً من التعلم لنمارس النقد بشكله العلمي وننطلق إلى عالم المعرفة إسوة بالمجتمعات المتحضرة ؟