روچ اڤا (كردستان الغربية): الفرصة الذهبية ومسؤولية الكورد في بناء المستقبل – بوتان زيباري

 

لطالما كانت الشعوب التي تكافح من أجل حريتها على موعد مع لحظات تاريخية نادرة، قد لا تتكرر إلا بعد عقود طويلة، وربما قرون. واليوم، يجد الكورد في روچ اڤا أنفسهم أمام منعطف حاسم قد يحدد مصيرهم للأجيال القادمة. إنها فرصة ثمينة لا يمكن إضاعتها، وإلا فإن الانتظار قد يطول حتى تتاح لهم فرصة مشابهة. إن هذه المسؤولية الجسيمة لا تقع على عاتق الأحزاب والقيادات السياسية فحسب، بل تشمل جميع الكورد دون استثناء، إذ يتطلب الأمر رؤية استراتيجية موحدة، وحكمة سياسية تتجاوز الخلافات الداخلية، واستثمارًا مدروسًا في جميع المجالات.

الرؤية السياسية: ضرورة الوحدة والتكامل

في عالم السياسة، لا يكفي أن تمتلك قوة عسكرية أو نفوذًا ميدانيًا، بل يجب أن ترتكز على رؤية واضحة المعالم، قائمة على الديمقراطية والتعددية، تأخذ في الاعتبار حقوق جميع المكونات التي تعيش في روچ اڤا، من كورد وعرب وآشوريين وإيزيديين. لقد استطاع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) أن يفرض وجوده في المشهد السياسي والعسكري، لكنه لم يتمكن بعد من تحقيق شراكة سياسية حقيقية مع بقية الأطراف الكوردية. إن استمرار الانقسامات الداخلية قد يجعل هذه الفرصة الثمينة عرضة للضياع، مما يحتم على الجميع تجاوز الخلافات الضيقة، والعمل على مشروع سياسي موحد يخدم مصلحة الجميع.

إضافةً إلى ذلك، من الضروري أن يساهم كلٌّ من الحزب الديمقراطي الكوردي (PDK)  والاتحاد الوطني الكوردي (YNK) وحزب العمال الكوردي (PKK) في دفع عملية التقارب بين الأطراف الكوردية في روچ اڤا، وأن يقدموا الدعم لهم، وألّا يسمحوا للمنافسة فيما بينهم بأن تؤدي إلى مزيد من التفرقة بين الكورد.

نموذج الحكم: هل تستطيع روچ اڤا أن تكون مثالًا ديمقراطيًا؟

في منطقة تمزقها الصراعات وتُحكم بقبضة الاستبداد، يمكن لروچ اڤا أن تكون نموذجًا ديمقراطيًا يحتذى به. لقد خطت الإدارة الذاتية خطوات مهمة في هذا الاتجاه، لكنها بحاجة إلى تعزيز إشراك مختلف القوى السياسية والمدنية لضمان استدامة التجربة. الديمقراطية لا تكون فقط برفع الشعارات، بل بإرساء ممارسات سياسية فعلية تكفل حرية التعبير، وتحترم التنوع السياسي والاجتماعي. إن استقرار المنطقة يعتمد على مدى قدرة النظام السياسي على استيعاب الجميع، لا على احتكار السلطة.

الدبلوماسية الكوردية: البحث عن دعم متوازن

لا يمكن لأي مشروع سياسي أن ينجح دون علاقات دولية متينة. إن الكورد في روچ اڤا بحاجة إلى تعزيز تواصلهم مع القوى الإقليمية والدولية، ليس فقط لضمان بقائهم، بل أيضًا لتأمين اعتراف سياسي بوجودهم. الاعتماد على طرف واحد، سواء كان الولايات المتحدة أو روسيا، قد يجعل التجربة عرضة للانهيار في حال تغيرت التوازنات الدولية. لذا، من الضروري تبني نهج دبلوماسي متعدد الاتجاهات، يسعى إلى بناء تحالفات أوسع مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، مما يمنح القضية الكوردية بعدًا أعمق على الساحة الدولية.

دور المجتمع المدني: ركيزة الاستقرار السياسي والاجتماعي

إن تحقيق الديمقراطية والاستقرار في روچ اڤا لا يمكن أن يتم عبر السياسيين وحدهم، بل لا بد من منح المجتمع المدني دورًا أساسيًا في عملية بناء الدولة. فالمجتمعات القوية تُبنى عبر مؤسسات مدنية فاعلة، تساهم في ترسيخ قيم العدالة والمساواة، وتعزز مشاركة المواطنين في صنع القرار. إن تعزيز المجتمع المدني في روچ اڤا سيؤدي إلى خلق بيئة سياسية أكثر استقرارًا، ويحد من هيمنة القوى العسكرية على المشهد.

 

القوة الدفاعية: ضرورة بلا استنزاف

من دون منظومة دفاعية قوية، لن يكون لأي مكسب سياسي قيمة حقيقية. لكن في الوقت ذاته، يجب أن يكون الهدف الأساسي لأي قوة عسكرية هو حماية المجتمع، وليس الانجرار إلى صراعات لا طائل منها. لقد دفعت الشعوب ثمنًا باهظًا بسبب الصراعات الداخلية والحروب التي لا تحقق أهدافًا استراتيجية واضحة. لذا، ينبغي العمل على تأسيس جيش منضبط ومحترف، يضع مصلحة الشعب فوق أي اعتبار، ويبتعد عن التوظيف السياسي الضيق.

التحديات الاقتصادية: نحو اكتفاء ذاتي مستدام

لطالما كانت الأزمات الاقتصادية واحدة من أكبر التحديات التي تواجه المشاريع السياسية الناشئة. لا يمكن لروچ اڤا أن تعتمد بالكامل على المساعدات الخارجية، أو أن تكون رهينة للضغوط الاقتصادية القادمة من دمشق أو الدول المجاورة. إن تجربة إقليم كوردستان العراق أثبتت أن الاستقرار الاقتصادي هو مفتاح النجاح السياسي. لذا، يجب على القيادة في روچ اڤا تبني استراتيجية اقتصادية تركز على الاستدامة، وتطوير قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة لضمان مستوى معيشي مستقر.

المرونة السياسية: التخلص من الجمود الإيديولوجي

لقد دفعت الشعوب ثمن الجمود الإيديولوجي مرارًا، وحان الوقت للكورد في روچ اڤا أن يتعاملوا ببراغماتية سياسية، تأخذ في الاعتبار متغيرات الواقع ومصالحهم الوطنية. فالتمسك بمواقف متصلبة دون مراعاة المتغيرات السياسية قد يؤدي إلى عزلة قاتلة. إن الواقعية السياسية لا تعني التخلي عن المبادئ، بل تعني توظيفها بذكاء لتحقيق الأهداف الكبرى دون خسائر غير ضرورية.

إصلاح التعليم: بناء جيل يقود المستقبل

إن بناء مجتمع قوي ومستدام لا يكون إلا عبر تعليم متطور، يرتقي بالفكر، ويعزز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. رغم الجهود المبذولة في هذا المجال، لا يزال النظام التعليمي في روچ اڤا بحاجة إلى تحديث شامل، يواكب التغيرات العالمية، ويضمن إعداد جيل واعٍ قادر على تحمل مسؤولياته في المستقبل.

الخاتمة: هل سيصنع الكورد التاريخ أم ينتظرونه؟

إن اللحظة التي يعيشها الكورد في روچ اڤا اليوم قد لا تتكرر لعقود طويلة، وإذا لم يتم استغلالها بالشكل الصحيح، فقد يكون الثمن باهظًا. المطلوب اليوم ليس مجرد إدارة يومية للأزمات، بل استراتيجية بعيدة المدى تضمن الاستقرار السياسي، والقوة الدفاعية، والتنمية الاقتصادية، والدعم الدولي. إن النجاح في ذلك لن يكون مجرد انتصار للكورد، بل قد يجعل من روچ اڤا نموذجًا يُحتذى به في المنطقة، ويضع الكورد في مكانتهم التي يستحقونها على الساحة الدولية. فهل سيصنع الكورد التاريخ هذه المرة، أم سينتظرونه مجددًا؟

السويد

25.01.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *