وقفية مملكة أودة- محمد علي محيي الدين

 

   صدر للباحث نبيل عبد الأمير الربيعي كتاب (وقفية أودة وتأثيرها الاقتصادي على النجف وكربلاء(1849-1949) عن دار الفرات للثقافة والاعلام في الحلة -2025  وكثيراً ما يخوض الباحث الربيعي في أمور مثيرة يحاول كثيرون تجنبها وعدم الخوض فيها لما فيها من اشكالات ومخاوف، ولكنه يقتحم هذه الجوانب من خلال دراسته الموضوعية، والتقيد بالبحث العلمي المنهجي الذي يطرح الأمور كما وردت في المصادر المختلفة، دون الولوج في دقائقها أو تمحوراتها التي تثير الآخرين.

  ومن بين هذه المواضيع التي خاضها قضية (خيرية أودة) أو (وقفية أودة)  التي تباينت الآراء حولها، واختلفت المواقف فيها، وهذه الخيرية هي معلم بارز في التاريخ الاجتماعي والسياسي للمنطقة، حيث ارتبط اسمها بالعديد من الجهود الخيرية والاجتماعية التي هدفت إلى تحسين أوضاع الفئات المهمشة والمحرومة.

  كانت دوافع خيرية أوده تنبع من واقع اجتماعي مليء بالتحديات والصعوبات التي واجهتها الفئات الضعيفة في المجتمع. لقد عايشت ظروف الفقر والحرمان، ما دفعها إلى التفكير في كيفية تقديم العون والمساعدة لتخفيف معاناة المحتاجين، لإيمانها العميق بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر، وأنها أحد المحركات الأساسية لنشاطاتها.

   إضافةً إلى ذلك، تأثرت خيرية أوده بالثقافة الدينية والقيم الأخلاقية التي تعزز روح العطاء والتكافل الاجتماعي. ومن الواضح أن البيئة التي نشأت فيها لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل شخصيتها وحثها على الانخراط في الأعمال الخيرية.

ولقد تركزت أهداف خيرية أوده على تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، مع إعطاء الأولوية للفئات الأكثر حاجة.

 ومن أبرز أهدافها: توفير التعليم، فقد آمنت بأن التعليم هو مفتاح التغيير والتنمية، وسعت إلى إنشاء مدارس ومراكز تعليمية لتوفير الفرص للأطفال والشباب. وفي مجال الرعاية الصحية عملت على تحسين الخدمات الصحية من خلال إنشاء عيادات وتوفير الأدوية والرعاية للمحتاجين، وركزت على تعزيز دور المرأة في المجتمع من خلال توفير فرص التعليم والعمل، وتشجيعها على المشاركة الفاعلة في مختلف المجالات، وسعت لمكافحة الفقر من خلال اطلاق مشروعات صغيرة تهدف إلى توفير فرص عمل وتحسين الأوضاع الاقتصادية للعائلات الفقيرة، وسعت إلى تعزيز التفاهم بين مختلف فئات المجتمع، بما يساهم في بناء مجتمع متماسك ومزدهر.

   وكان تعامل رجال الدين مع خيرية أوده متنوعًا، وتفاوت بين التأييد الكامل والانتقاد الحذر. فمن جهة، لقيت مبادراتها استحسان العديد من رجال الدين الذين رأوا في جهودها تطبيقًا عمليًا لقيم التكافل والعدالة التي تدعو إليها التعاليم الدينية. وأشاد هؤلاء بمساهماتها في تخفيف معاناة الفقراء وتعزيز روح التعاون بين أفراد المجتمع.

  لكن من جهة أخرى، تعرضت خيرية أوده لانتقادات من بعض رجال الدين الذين رأوا أن نشاطاتها قد تتعارض مع بعض الأعراف أو التقاليد السائدة. وُجِّهت لها اتهامات بأنها تتجاوز أحيانًا حدود الدور التقليدي للمرأة في المجتمع. ومع ذلك، استطاعت بفضل حكمتها وشخصيتها القوية أن تبني جسورًا من التفاهم مع هؤلاء النقاد، وأثبتت أن نشاطاتها تهدف فقط إلى الخير العام.

وهذه الخيرية تعد نموذجًا ملهمًا في السعي لتحقيق تغيير إيجابي في حياة الآخرين، ورغم التحديات والانتقادات، نجحت في تحقيق أهدافها وإحداث تأثير كبير في مجتمعها. وتبقى مصدر إلهام للجيل الحالي والقادم لبناء مجتمعات أكثر عدلًا وتضامنًا.

   ومدينة النجف الأشرف التي تعد مركزاً للعلم والفكر الإسلاميين، وتلعب المرجعية الدينية دوراً مهماً في توجيه المجتمع وحل القضايا الاجتماعية والتنموية، برزت مسألة وقفية “أودة” كأحد المواضيع التي أثارت خلافات بين رجال الدين وأطراف أخرى في المدينة.

  وهذه الخيرية مخصصة للمنفعة العامة، وقد كان المقصود منها الصرف على خدمة الفقراء والمحتاجين. ولكن بسبب طبيعتها القانونية والاقتصادية، أثارت قضية إدارتها وصرف عوائدها خلافات بين رجال الدين في النجف، فقد انقسم رجال الدين حول هذه المسألة إلى معسكرين: معسكر يدعم القبول بوقفية “أودة” والاستفادة من عوائدها، ومعسكر يعارض القبول بها ويعتبر أنها قد تتضمن شروطاً لا تتفق مع المبادئ الشرعية أو تسبب في تدخلات أجنبية.

   من جهة أخرى، اعتبر المؤيدون لوقفية “أودة” أنها فرصة لدعم المشاريع الخيرية وتقديم العون للمحتاجين، مستندين إلى أن الوقف في مقصده الشرعي يكون لمصلحة الأمة. ومن جهة أخرى، رأى المعارضون أن الوقفية قد تُساهم في فرض شروط أو ضغوط من جهات أجنبية، وهو ما يعرّض السيادة الوطنية للمخاطر.

  والسفارة البريطانية لم تكن بعيدة عن هذه القضية، حيث كانت لها مصالح في مسار الوقفيات والنشاطات الخيرية في العراق. ولعلها قد سعت إلى دعم جهات معينة أو التأثير على قرارات رجال الدين للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية.

   لذلك كانت قضية وقفية “أودة” في النجف محور خلافات واضحة بين الطرفين الداعم والمعارض. وتعكس هذه المسألة التقاطع بين الدين، السياسة، والمصالح الخاصة. وما زالت هذه القضية محل نقاشات ومناقشات في الأوساط الفكرية والدينية، والباحث الربيعي خاض في هذه اللجة، وأنغمر في منعرجاتها الضيقة بحذر، محاولاً تجنب المخاطر الناجمة عن بعض الآراء التي تندرج في أطر مثيرة قد تكون لها نتائج هو في غنى عنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *