بين لعنة الجغرافيا وخيانة الجيوسياسة: القضية الكوردية في مهب التوظيف الدولي – بوتان زيباري

في أروقة السياسة الدولية، حيث تتراقص المبادئ على إيقاع المصالح، تبدو القضية الكوردية كوتر مشدود بين أصابع القوى الكبرى، كلٌ يعزف عليه لحنًا يخدم نوتته الخاصة، ثم يطويه في غمد النسيان حين تنقضي الحاجة. إنها قضية أمة سُلب منها حقها في التشكل، ليس لأنها تفتقر إلى مقومات الهوية، بل لأن الخرائط التي رسمها المنتصرون بعد الحروب الكبرى كانت أقرب إلى وثائق ملكية تتقاسم فيها الدول النفوذ، لا حقوق الشعوب. فالكورد، على مرّ العقود، لم يكونوا سوى ورقة توضع على الطاولة عندما يقتضي الأمر، ثم تُلقى في مهب الريح حين تتغير قواعد اللعبة.

ولعل المفارقة الأشد مرارة تكمن في ازدواجية المواقف الدولية تجاه الكورد، تلك الازدواجية التي تكشف أن الحقوق في هذا العالم ليست سوى معادلة قوة، وليست مبدأ أخلاقياً أو سياسياً. فها نحن نرى القوى الكبرى تهبّ لنصرة الكورد في سوريا عندما تطلب الأمر سحق تنظيم داعش، تُسلّحهم، تمكّنهم، وتمنحهم هامشًا من الاستقلالية العسكرية، لكن ما إن وضعت الحرب أوزارها، حتى تحول المشهد إلى صمت مطبق، كأن الوعود التي قُطعت كانت مجرد صدى يتلاشى في فراغ السياسة. أما في تركيا، حيث الكورد يقبعون تحت ظل قبضة أمنية لا ترحم، فلا تكاد تُسمع همسة احتجاج من العواصم الغربية، وكأن المعايير التي تُرفع في الشرق، تُطوى في الغرب إذا مست مصالح الشركاء الأقوياء.

وإذا كانت الدول الكبرى قد أتقنت فن اللعب بورقة الكورد، فإن الدول الإقليمية لم تكن أقل براعة في التلاعب بهذه الورقة، كلٌ حسب مقتضيات أمنه القومي ومشروعه السلطوي. فإيران، التي لطالما استثمرت في الحركات الكوردية خارج حدودها، لم تتوانَ لحظة عن سحق أي بادرة تحررية داخل جغرافيتها، وكأنها تؤمن بحق الكورد في النضال… ولكن فقط عندما يكون النضال في خدمة أجندتها. وتركيا، التي تقاتل بضراوة أي مشروع كوردي، لا تجد حرجًا في دعم بعض الفصائل الكوردية عندما يتطلب الأمر إضعاف خصومها الإقليميين. أما العراق، فحكومته المركزية تتعامل مع الإقليم الكوردي كشريك اقتصادي حين يكون النفط هو العنوان، وكخصم متمرد حين يتعلق الأمر بالسيادة والسلطة.

وفي خضم هذه التناقضات، يتجلى السؤال الجوهري: هل يمكن للقضية الكوردية أن تجد طريقها نحو التدويل الفعلي، بحيث تصبح شأنًا يخضع لمعادلات القانون الدولي، لا مجرد ورقة للمقايضة؟ أم أن لعنة الجغرافيا ستظل تلاحق الكورد، لتجعلهم شعبًا تتقاذفه العواصم دون أن تُفتح أمامه أبواب الاعتراف؟ لا شك أن التجربة التاريخية لا تبعث على التفاؤل، فقد شهد القرن الماضي العديد من اللحظات التي ظن فيها الكورد أنهم باتوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمهم، لكن كل مرة، كانت اللحظة الحاسمة تتحول إلى سراب، لأن اليد التي تمتد للعون سرعان ما تتحول إلى يد تتخلى، وتترك الجرح مفتوحًا لينزف من جديد.

لكن، ورغم كل هذه الخيبات، فإن المسألة لم تعد كما كانت في العقود الماضية. فالعالم اليوم لم يعد عالماً أحادي القطبية، والمصالح لم تعد تُدار بمنطق الحرب الباردة وحده. هناك فرص جديدة تتشكل، ومساحات يمكن للكورد أن يستغلوها بذكاء سياسي يحولهم من ورقة تُستخدم إلى لاعب قادر على فرض شروطه. غير أن ذلك لن يكون ممكنًا دون استراتيجية موحدة، ودون تجاوز الانقسامات الداخلية التي لطالما كانت نقطة الضعف الأكثر فتكًا بالمشروع الكوردي.

إن المستقبل لا يُمنح، بل يُنتزع، والتاريخ لم يكن يومًا منصفًا لمن لم يُجبره على ذلك. والكورد، إذا أرادوا ألا يكونوا مجرد هامش في دفاتر القوى الكبرى، عليهم أن يتقنوا لعبة التوازن، لا بين الفصائل الداخلية فحسب، بل بين القوى الدولية التي تحاول أن تجعل منهم مجرد بيادق في رقعة شطرنج أكبر منهم. فليس هناك شيء أكثر خطرًا على القضية الكوردية من أن تبقى رهينة للآخرين، تُحركها الرياح حيثما شاءت، دون أن تمتلك بوصلة تحدد بها وجهتها.

بوتان زيباري

السويد

06.03.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *