الساحل السوري: التطهير الطائفي مستمر بصمت والشرع بلا مساءلة- نجاح محمد علي

التغطية الإعلامية على الساحل السوري تتوقف، لكن هذا لا يعني أن العنف يتوقف. على العكس، فقد تغيرت طبيعته من المجازر الجماعية التي جذبت انتباه العالم، إلى القتل الفردي الذي يتم بصمت.

في اليومين الماضيين فقط، تم اختطاف ما لا يقل عن 6 أشخاص على طريق طرطوس-صافيتا وحده، ووجدت جثثهم لاحقًا ملقاة على الطريق وفي الغابات، في مشهد ينقل رسالة واضحة أن آلة القتل لم تتوقف، ولكنها غيرت طريقتها وأدواتها ومجال عملها.

ومع ذلك، تكاد التغطية الإعلامية تكون معدومة، وكأن أحدًا يحاول إخفاء أو تبرير هذه الجرائم.

هذه الجرائم لا تنفصل عن المشهد السياسي القائم في سوريا، حيث تولى أحمد الشرع الرئاسة بعد سنوات من الحروب والفوضى التي حولتها إلى ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والدولية. وعند توليه السلطة، سعى الشرع لتقديم نفسه كوجه جديد وقادر على سوريا، قادر على ترتيب الفوضى التي تركها حكم النظام السابق، لكن عند النظر إلى الوضع على الأرض، نجد العكس تمامًا.

 العنف، إذن، لم ينتهِ بل تحول؛ والرد الدولي أيضًا غائب عن النظام الجديد، كحال الإخوان المسلمين الذين هرعوا لدعمه وفتح العلاقات معه، متعامين عن واقع جديد: أن الإرهاب لا يزال بصمته على الساحة السورية – فقط يختفي في ملابس أكثر تطورًا وذكاءً.

الساحل السوري، الذي اعتاد أن يشهد مجازر دموية، دخل الآن في مرحلة من القتل الفردي المنهجي، حيث لم يعد الجناة بحاجة لارتكاب مجازر واسعة النطاق بهدف إخافة وترهيب الناس. ببساطة، يقومون ببعض التصفيات! المرحلة الجديدة التي تدخلها سوريا الآن تقدم قواعد جديدة، ولاعبين جدد يطالبون بقوانين جديدة للعبة. وهذا بدوره يؤثر على كيفية فرض العنف – ولكن النتيجة تبقى كما هي: المزيد من إراقة الدماء، المزيد من الخوف، المزيد من العنف المسيطر على الساحة السياسية.

بيد أن اللافت في هذا الإطار أن أسئلة طائفية لا تزال تُطرح في الحواجز، أحيانًا من قبل غرباء عن بلاد الحواجز، ما يشير إلى أن المشهد الأمني لم يتحسن، إن لم يكن تعمق تعقيده. عندما يوقفون شخصًا عند حاجز ويسألونه حسب طائفته، فهذا يعني أن التوتر الطائفي لا يزال يحكم المشهد الأمني بالرغم من كل الادعاءات بأن سوريا قد دخلت مرحلة جديدة . وبشكل ربما أكثر ضررًا، قد تكون عناصر غير سورية هي التي تطرح هذه الأسئلة، حيث كانت هناك تساؤلات حول مدى تغلغل القوى الأجنبية في الأجهزة الأمنية ومدى قدرتها على التحكم بها، سواء بميليشيات مسلحة تابعة لها أو من خلال شبكات غير رسمية.

في ظل هذه الحقيقة الواضحة يأتي التصريح المروع للمتحدث باسم لجنة تقصي الحقائق الذي يقول إن هذه 56 مذبحة على الساحل السوري هي بالفعل “حالات فردية.” هذا ليس مجرد تعبير ملطف بل هو إجراء محسوب، يسعى لتقليل الكارثة باسم حالات معزولة لا تستحق لا التدقيق الدولي ولا المساءلة القانونية. هذا السرد الرسمي يذكرنا بسياسة الإنكار التي مارستها الدول التي دعمت الجماعات الارهابية في سوريا لأكثر من عقد، والتي يبدو أن الرئيس الجديد يحملها. هذه الجرائم تمر غير مرئية، أو تُرفض، بينما يستمر العنف في أشكاله الجديدة غير المرئية خلف جدران الصمت والتواطؤ.

سوريا، بلد لا يحكمه نصف دزينة من الأشخاص في السلطة – سيكون قذرًا وقبيحًا – بل يحكمه فوضى مسلحة تحت نظام مُعدل بشكل خطير، وكان التغيير الذي حدث بعد تولي أحمد الشرع للحكم سطحيًا كما هو عليه اليوم، غارقًا في هاوية العنف التعسفي الذي انجرف نحو طريقة محاسبة فردية يصعب متابعتها وتوثيقها. بينما يتحدث النظام الجديد عن إعادة البناء وبدء عملية سياسية جديدة، ما زالت الجرائم تُرتكب في وضح النهار، وما زالت الجثامين تُرمى على حافة الطرق، وما زال السكان يعيشون تحت تهديد دائم. لا يمكن فصل هذا عن سياسات الدول الداعمة للشرع والذين أسرعوا لإعادة العلاقات معه، على الرغم من أن العنف لم يتوقف بل أصبح أكثر تعقيدًا وبطريقة يصعب اكتشافها.

إن التعتيم الإعلامي على هذه الجرائم ليس صدفة؛ إنه نتيجة لعوامل متعددة مترابطة، بعضها ناتج عن الرقابة الشديدة التي فرضها النظام الجديد، وبعضها يعكس الأولويات المتغيرة للإعلام الدولي، الذي لم يعد ينظر إلى سوريا كموضوع مثير كما كان الحال في السنوات الأولى من الصراع. ولكن بقدر انصب الاهتمام على نزاعات جديدة في أوكرانيا وشرق أوسط متوتر للغاية، فإن ما تبقى من الحقيقة في سوريا يتم الآن تغطيته بستار كثيف من التصريحات الرسمية والتغطية الجزئية التي لا تروي القصة على الأرض.

لكن هذا الصمت لا يعني أن الجرائم أقل خطورة، بل على العكس. أن عدم الاهتمام الإعلامي يمكن أن يمكن الجناة من استمرار انتهاك الحقوق دون رادع ودون رقابة أو مساءلة دولية. وهذا يضع عبئاً إضافيًا على الدول التي وقفت داعمة لأحمد الشرع أو عجَّلت بتطبيع العلاقات. فهم لا يشرعنون النظام الذي حرص على عدم إعطاء وعود حقيقية بوقف العنف فحسب، بل يضيفون أيضًا إلى جدار الصمت الذي يشجع بيئة من القتل والإرهاب المبرر باسم “الاستقرار.”

يصبح السؤال: كم من الوقت يمكن لهذا أن يستمر قبل أن ينفجر مرة أخرى؟ لا يمكن أن يؤدي صرف النظر عن الجرائم الحالية المرتكبة على الساحل السوري إلى تقليل الجرائم. بل على العكس، يمكن لهذا الإهمال أن يغذي عودة العنف، خاصة إذا استمر المسؤولون في إنكار الحقائق ولم يقدموا أي حلول حقيقية لن تؤدي سوى إلى تغذية المشكلة في جذورها.

ما يحتاج إلى حدوثه اليوم هو استعادة التركيز على ما يحدث على الساحل السوري وكشف الحقائق التي يحاول النظام الجديد وحلفاؤه دفنها. جرائم الشرع لا تتوقف عن الوجود فقط لأن من يهتمون بالعدالة والإنسانية تخلوا عنها، ولا تذهب إلى العدم بمرور الوقت، وأولئك الذين أسرعوا لتطبيع العلاقات واللقاء مع الشراع لديهم المسؤولية في الاعتراف بما فعلوه، لأن تجاهل هذه الجرائم لا يعني اختفاءها أو بشاعتها، بل إنها ستصبح موضوعًا للخجل من قبل الإعلام في وقت متأخر جدًا لجذب الانتباه.

ثم، دون فرض أي شروط جدية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم السابقة والمستمرة ضد الإنسانية، يتعاملون مع النظام السوري كما لو أنه طبيعي، كما لو أن القيام بذلك سيوقف مذبحة الجماهير، وبدلاً من ذلك، يمهد الطريق نحو العنف في شكله المعروف؛ فقط اليوم مختلف من حيث تصفية الأفراد.

لا يمكن الحديث عن مرحلة جديدة لسوريا بينما تستمر حوادث الخطف والقتل كل يوم، بينما تستمر الأسئلة الطائفية في الحواجز، بينما تُرمى الجثث في الأحراش كما لو كانت مجرد قمامة. هذا الواقع لا يعني أن الأزمة انتهت؛ بل يعني أنها دخلت مرحلة أكثر فتاكة، حيث يصبح العنف مستهدفًا أكثر، هادئًا أكثر، وأفضل في تحقيق أهدافه دون لفت الانتباه. هنا، اللوم لا يقع بالكامل على النظام الجديد؛ بل يقع أيضًا على أولئك الذين سارعوا لتشريعه، متجاهلين بكل بساطة أن سوريا ليست سوى دكان متهالٍ لجرائم منظمة وإرهاب سياسي.

ما يجري على الساحل السوري اليوم ليس حوادث فردية كما يحب البعض تصويرها، بل هو استمرار لسياسة مدروسة طويلة الأمد من العنف والإفلات من العقاب الذي تمت تجربته في إدلب . إذا لم تتوقف هذه الجرائم وإذا بقي العالم صامتًا عما يحدث، فإن ما نراه اليوم لا يمكن أن يكون سوى مقدمة لمرحلة دموية تظهر ما هو في طور إعداد نطاق أقرب للقتل لاحقًا وكذلك عهد الخوف هو المعيار الوحيد لتنظيم الحياة البشرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *