ما بين النظام المركزي واللامركزي في سوريا، تتجذر أزمة ثقة مزمنة، لا تُبنى على حقائق الواقع، بل على أوهام تاريخية مغلّفة بالحقد والكراهية الممنهجة، لا يدور صراع على أنماط الإدارة، بل على جوهر الدولة، هل تكون ساحة سلطة مفروضة من طائفة أو قوم، أم فضاء مشتركًا تتقاسم فيه الشعوب السورية مصيرها، على قاعدة العدالة والمساواة؟
لقد انعدمت الثقة، وتحوّلت الدولة إلى آلة نهب قومي وطائفي، فيما تُشنّ اليوم حرب دعائية منظمة ضد الكورد، ليس بسبب ما فعلوه، بل بسبب ما يطالبون به، وطنٌ يُدار بالعقل، لا بالسيف.
تُحشد ضد الكورد أبواقٌ متعددة المستويات، من مثقفين مأجورين إلى محللين مرتزقة، يتقنون الخبث السياسي بقدر ما يحترفون الكراهية، جندت خلفهم شريحة من الرعاع تعبث في مواقع التواصل الاجتماعي. بعضهم يتكلم باسم الوطن، لكنه يسعى لإعادة إنتاجه بلون واحد، يتحدثون عن “سوريا للسوريين”، ثم يرفسون هذا الشعار حين يطالب الكوردي أن يكون سوريًا بحق، لا تابعًا ولا ذبيحة تاريخية على مذبحة الوحدة العربية، الفرق بين من يقتل باسم الوطن، ومن يقتل باسم الله، ويعبث باسم العروبة، لا يتجاوز طريقة رفع السكين.
هؤلاء الذين يعارضون النظام الفيدرالي، يجهلون أو يتجاهلون أن سوريا جرّبت النظام المركزي لسبعة عقود، فماذا أنتج؟ سلطة بعثية، طغيان عائلي، ومقابر جماعية، ثم جاءت المعارضة، وبدل أن تراجع النموذج، استعادت لغته، وخطابه، ومفاهيمه المريضة، لا يريدون الاعتراف أن المركزية هي جذر البلاء، وأن الفيدرالية ليست تهديدًا، بل حصانة ضد عودة الاستبداد.
حين يطالب الكورد بالنظام الفيدرالي اللامركزي، فإنهم لا يطالبون به لغربي كوردستان وحدها، بل كحلّ إنقاذي لسوريا كلها، دولة وشعبًا ومستقبلًا، فكما أن الطغيان لا يعترف بالحدود، كذلك الحرية يجب ألا تُقزم في مطالب جغرافية. الفيدرالية هي صيغة وطنية للعدالة، لا مشروع انفصالي كما يصورها من تربوا على كراهية التعدد.
الشعب الكوردي، نعم، يطمح إلى تقرير المصير، وهو حقٌ قبل أن تمنحه الدول وإرادة الشعوب، تمنحه السماء “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟” كانت صرخة عمر بن الخطاب، لكنها تحوّلت في قاموس بعض “الإخوة” إلى خطابٍ لا يُمارس إلا ضد الكورد.
والحق يُقال، بقدر ما يتحدث بعض العرب خاصة الذين شكلوا الحكومة الانتقالية السورية عن عدم ثقتهم بالكورد، فإن الكورد، وبكل وضوح، لا يثقون أيضًا بمن يرفض النظام الفيدرالي، ويُصر على إعادة إنتاج المركزية، لأنهم ببساطة يعيدون لنا عطر السجون في قارورة الدستور الجديد، وإذا كان هناك من صدقٍ في الشك، فإن شك الكورد أكثر صدقًا، مبني على تجارب مريرة، وعلى تاريخٍ طويل من الإنكار والقمع، لأنهم هم من دُفعوا للجبال والسجون والمنافي، وهم من دُفعوا ليحملوا السلاح لا ليتسلوا به، بل لأنهم كُفروا قوميًا، واغتيلوا سياسيًا، وأُقصوا من المواطنة منذ ولادة الدولة السورية.
ليجرب السوريون إذًا نظامًا لم يعرفوه، لا مركزية عادلة، وفيدرالية تنصف الجميع، بدلًا من مواصلة العبث بنفس التجربة المسمومة. من لم يجرّب الفيدرالية، لا يملك حق مهاجمتها، ومن يرفضها، عليه أن يشرح كيف يمكن للإنكار أن يُنتج دولة، أو كيف للمركزية أن تحمي سوريا من تفككها القادم؟ فحتى أشد الداعمين للوحدة السورية في واشنطن وأوروبا، يرون النظام الفيدرالي ضمانة لبقاء سوريا، لا تفككها.
أما من يتذاكون ويتهمون الكورد بأنهم يريدون الانفصال سرًّا، فليتأملوا، هل يوجد شعبٌ يسعى للانفصال، ثم يقترح نظامًا يصلح لكل سوريا؟ الفيدرالية لا تطعن في وحدة الأرض، بل في وحدة الظلم، أما من يُصر على حكم سوريا من مركز واحد، فهو إما طاغية، أو شريك للطغاة، أو حالم بسلطة على جثث الآخرين.
وعلى الهيئة الكوردية المفاوضة أن تدرك أن التفاوض ليس تَوسُّلًا، بل شراكة الندّ للندّ، فليس من العقل ولا من الكرامة أن تنتظر من يدّعي “الانتصار” ليمنّ عليك بحوار، أو يملي عليك شروطه باسم الأغلبية. يجب ألا تتكالب على طاولة، لا تُمد إلا حين تطلبها القوى المنتصرة، متناسية أن الدول التي فتحت لتركيا أبواب دعم الجولاني والإسلاميين، هي نفسها القادرة على إغلاقها، وأن النظام المركزي لم يعد في مصلحة هذه القوى، مهما تم تلميعه أو تبييضه عبر المال القطري أو البروتوكولات التركية.
الفيدرالية ليست خيارًا كورديًا فقط، بل مشروع عالمي، يتسق مع النماذج الديمقراطية في العالم الحر، وبدونه، ستعيد سوريا إنتاج استبداد جديد باسم الثورة، وقد تكون نسخة الجولاني أسوأ من نسخة الأسد، وعلى الهيئة الكوردية أن تُصرّ، لا أن تتوسل، على صيغة تحفظ حقوق الجميع، لأن الفيدرالية هي الطريق، لا فقط للكورد، بل لسوريا التي تستحق الحياة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
8/6/2025م