ترامب وكورباتشوف.. تشابه في التفكير؟ أم أن التاريخ يعيد نفسه على أمريكا؟ – هشام عقراوي

في عالم السياسة، لا تتكرر الأحداث فقط، بل تتكرر أيضاً “السياسات التي أدّت إلى انهيار الدول والمجتمعات عبر التاريخ الحديث “.
واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك هي “نظرية البروسترويكا ” التي قادها ميخائيل غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي، والتي كانت تُطرح باعتبارها “إصلاحاً سياسياً واقتصادياً جذرياً “، لكنها انتهت بـ”تفكيك الاتحاد وتحويل الجمهوريات السابقة إلى دويلات ضعيفة، خاضعة للنفوذ الغربي أو ممزقة داخليًا “.

اليوم، يُمكن القول إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقود نهجاً مشابهاً، ليس فقط على المستوى الدولي، بل حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها. فما يُمارسه ترامب من سيطرة مركزية، وتجاهل لصلاحيات الولايات، واستخدام الحرس الوطني كأداة ضغط ضد الحكومات المحلية، يُعيد للأذهان “نموذج كورباتشوف الاستبدادي تحت غطاء الإصلاح “، الذي أدّى إلى تفكيك بنية الدولة، وإضعاف الشراكة بين المركزي والمحلّي.

غورباتشوف و”البروسترويكا”: إصلاح أم تفكيك؟

في الثمانينيات، حاول غورباتشوف تقديم نفسه كقائد إصلاحي، يهدف إلى “تحديث النظام الاشتراكي، وتخفيف الرقابة، وفتح المجال أمام السوق الحر، وبناء شراكات مع الغرب “.
لكن الواقع يقول إن “الإصلاحات لم تكن فقط تغييراً في النموذج الاقتصادي، بل كانت إعادة صياغة شاملة للبنية السياسية، أسفرت عن انحلال كامل للاتحاد السوفيتي، وتحول الجمهوريات السابقة إلى دويلات ضعيفة، تعتمد على الدعم الخارجي، وتشهد انقسامات داخلية مستمرة حتى اليوم “.

  • البروسترويكا لم تُنتج دولاً مستقلة، بل أنتجت “دول وظيفية”، تخدم مصالح الآخرين.
  • اللامركزية التي طرحها غورباتشوف تحولت إلى “تفكيك دولة “، وليس إلى بناء دولة جديدة.
  • الإلغاء المفاجئ للمركزية الصارمة أدى إلى “فوضى مؤسساتية “، وغياب القانون، وتفكك البنية الاجتماعية والاقتصادية.

ترامب.. نهج جديد؟ أم إعادة إنتاج لنفس السياسات؟

لا يمكن النظر إلى خطوة ترامب الأخيرة بإرسال الحرس الوطني إلى لوس أنجلوس لإدارة ملف الهجرة، دون ربطها بنهجه الأوسع في إدارة الولايات الأمريكية، والذي يعكس “محاولة لتقويض اللامركزية السياسية، وتحويل الولايات إلى كيانات غير مستقلة، تابعة بشكل مباشر للرئيس وسياساته “.

النقاط المشتركة بين ترامب وغورباتشوف:

العنصر
غورباتشوف
ترامب
الذريعة
الإصلاح، الانفتاح، تحديث النظام
الإصلاح، الأمن، السيطرة على الهجرة
النتيجة العملية
تفكك الاتحاد السوفيتي، وضعف الجمهوريات الجديدة
تفاقم الانقسامات بين الولايات، وتصاعد التوترات الداخلية
التعامل مع المحليات
إضعاف الحكومة المركزية، ثم إضعاف المحليات عبر تجزئة القرار
إضعاف سلطة الولايات عبر استخدام الجيش والأمن كأداة ضغط
العلاقة مع المجتمع الدولي
تسليم شرق أوروبا للغرب، وقبول بالهيمنة الاقتصادية والسياسية
تعزيز الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، وإعادة هيكلة العلاقات الدولية بما يخدم شخصيته السياسية
ردود الفعل الداخلية
انهيار النظام، وظهور حكم بوتين كرد فعل على الضعف والانقسام
تصاعد الاحتجاجات، ورفض بعض الولايات تنفيذ القرارات، مثل كاليفورنيا

هل ترامب يُعيد تجربة كورباتشوف؟

قد يبدو هذا التشبيه مبالغاً فيه، لكن الوقائع تشير إلى أن “ترامب يعمل ضمن إطار تغيير عميق في العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات الأمريكية، بحيث تصبح الولايات مجرد أدوات تنفيذية، بينما يحتكر هو وفريقه القرار النهائي، حتى في المسائل المحلية والاجتماعية “.

بعض الأمثلة على هذه السياسة:
  1. رفض استشارة حاكم ولاية كاليفورنيا قبل إرسال الحرس الوطني إلى لوس أنجلوس ، رغم أن الولاية كانت قد أوضحت موقفها من سياسات الهجرة.
  2. إعطاء الأولوية للوزراء المقربين منه، وليس للخبراء أو المؤسسات، في اتخاذ القرارات الحاسمة .
  3. إعادة تعريف العلاقة مع المهاجرين، والتركيز على الخطاب التمييزي، وهو ما يُشبه كثيراً الطريقة التي حوّل بها غورباتشوف خطابه من “اشتراكي” إلى “ليبرالي” بامتياز، لكنه لم يُنتج استقراراً، بل زاد من الفوضى السياسية والاقتصادية .
  4. التدخل المباشر في الشؤون المحلية للولايات، باستخدام الجيش أو الشرطة الفيدرالية، كما حدث في لوس أنجلوس، وهو أمر لم يسبق له مثيل منذ عقود .
هل ترامب يُعيد تعريف الفيدرالية الأمريكية؟

السؤال الحقيقي اليوم هو:

هل ترامب يُعيد تعريف العلاقة بين الولايات والحكومة الفيدرالية، أم أنه يُعيد تعريف الولايات المتحدة نفسها؟

الخطوة الأخيرة بإرسال الحرس الوطني إلى لوس أنجلوس ، رغم رفض حاكم الولاية ورئيس بلديتها، تُعد مؤشرًا خطيرًا على أن “الرئيس الأمريكي يسعى لبناء علاقة مباشرة مع الشعب، دون المرور عبر المؤسسات المحلية، وهو ما يُضعف فكرة الفيدرالية، ويحوّل الولايات إلى كيانات شكلية، لا تملك صلاحية القرار “.

بصدد دستور أمريكا يقول المحامي الدستوري الأمريكي جون هاريس :

الولايات المتحدة ليست نظاماً مركزياً، بل هي اتحاد دول، كل منها لها حقوقها الدستورية. استخدام الجيش الفيدرالي لقمع الاحتجاجات المحلية، أو لفرض سياسات الهجرة، قد يكون دستورياً، لكنه سياسيًا يُشكّل انقلاباً على فكرة التعايش واللامركزية .”


السلطة والانقسام.. هل بدأت الولايات بالمقاومة؟

رغم أن ترامب يُصر على أن خطواته “ضرورية لتحقيق الأمن والقانون” ، إلا أن حكام الولايات ، وبالأخص في المناطق الليبرالية، بدأوا بـ”التحرك المعاكس “.

  • حاكم كاليفورنيا جافين نيوسوم ، أعلن أن “الولاية ستواصل دعم المهاجرين، ولن تُطبّق سياسات البيت الأبيض إذا كانت تتعارض مع قوانيننا المحلية “.
  • رئيسة بلدية لوس أنجلوس كارين باس ، رأت أن “التدخل الفيدرالي ليس حلاً، بل هو ذريعة لخلق صراعات داخلية جديدة “.
  • الرئيس السابق باراك أوباما ، قال في مقابلة مع CNN:

    الولايات المتحدة ليست دولة واحدة، بل اتحاد دول. إذا بدأنا بتجاهل التنوع، وفرض سياسات مركزية قسرية، فإننا سنفقد هوية بلدنا، وسنبدأ في تقسيمه داخليًا، حتى قبل أن يُقسم من الخارج .”

العبر المستخلصة من التجربة السوفيتية: لا إصلاح بدون مشروع دولة حقيقي

الدرس الأكبر من تجربة غورباتشوف هو أن “الإصلاحات الجذرية لا تنجح ما لم تكن مدعومة بمشروع دولة واضح، ومُشارك لكل المواطنين والمكوّنات “.

أما في أمريكا، فقد بدأت “الإصلاحات ترامبية ” تأخذ طابعاً “استبدادياً “، حيث:

  • الرئيس يُعيد تعريف العلاقة بين واشنطن والولايات، ويُعطي أولوية للتنفيذ العسكري على الحوار السياسي .
  • المحاسبة القضائية تأتي بعد القرار، وليس قبله، مما يُضعف ثقافة الديمقراطية ويُعزز ثقافة التنفيذ الأحادي .
  • القوانين الفيدرالية تُستخدم كأداة ضغط، وليس كآليات حماية للمواطنين، وهو ما يُعيد تجربة “الحكم المركزي” التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي .

 

ترامب وغورباتشوف: إصلاح أم تفكيك؟

الخلاصة:
  • ترامب يعيد تجربة غورباتشوف، لكن تحت غطاء “القومية الأمريكية” و”الحدود”، و”السيطرة على الهجرة”، و”الانسحاب من المعاهدات”، و”إعادة تعريف العلاقة مع الولايات “.
  • النتائج قد لا تكون سريعة، لكنها خطيرة، وقد تدفع الولايات المتحدة نحو مرحلة جديدة من الانقسامات الداخلية، خاصة في حال استمرار سياسة الإملاءات والاستبداد السياسي من البيت الأبيض .
  • العبرة من الاتحاد السوفيتي واضح: لا يمكن بناء دولة عبر الإصلاحات الفردية، ولا عبر التدخلات الخارجية، بل عبر مؤسسات قوية، وشراكة حقيقية، واحترام التنوع الداخلي .

إذا لم يُوقف ترامب سياسة التفرد، وإذا لم يُراجع خطواته في استخدام الجيش كأداة ضغط داخلية، فإن الولايات المتحدة قد تشهد تفككاً داخلياً، وإن لم يكن بالاسم، فهو بالفعل، حيث تتحول الولايات إلى مجالات نفوذ أيديولوجية، وتُستخدم القوانين كأداة لتصفية الحسابات، وليس لحماية الحقوق .”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *