البيشمركة هو المصطلح الذي يطلقه الكورد في كوردستان للاشارة الى القوات التي تحمي الوطن، ولقد مرت التسمية بمراحل كثيرة كي تصل الى المفهوم والشكل الحالي، سواء من حيث الاستخدام او المعنى ، ولذلك نجد بان للكلمة اهمية كبيرة عند الامة الكوردية لاسيما في جنوب كوردستان حيث تم استخدام المصطلح اول مرة هنا، وفيما بعد اصبح هناك بيشمركة في شرق وغرب كوردستان مع تحفظ على التسمية في الغرب الى جد ما وكذلك في شمال كوردستان لكون الفكر القومي الكوردي السائد هناك يميل الى مفهوم الثورية الماركسية لذلك هم يتبنون تسمية الثوار ” شه رفان ” اكثر. ومع ذلك يبقى للبيشمركة مكانتهم وقيمتهم الكبيرة لدى جميع ابناء الامة الكوردية، لكونهم منذ بداية ظهورهم عُرف عنهم ميلهم الى التضحية والعمل الدؤوب وبنكران الذات من اجل حرية وحقوق الامة الكوردية.
للبيشمركة معاني كثيرة، ولكون الاسم كوردي فانه صعب على المفسرين من غير الكورد فهم معنى الكلمة والاسم بشكل صحيح، فهناك من قال بانها تعني الفدائيين ، وهناك من فسرها على انها تعني المقاتلين الاشداء، والبعض قال بان البيشمركة اسم يطلقه الكورد على المقاتلين الذين ” يواجهون الموت “، ولكن يبقى للكلمة بريقها ورونقها بلغتها الاصلية لانها بنظر اصحاب اللغة تطلق على الانسان الذي يعمل بنكران الذات مضحيا بحياته وكل ما يملك من اجل تحقيق اهداف امته وتحرير كوردستان من الاحتلال الذي فرض عليه وفق معاهدات وصفقات دولية واقليمية لاسيما بعد كل من مؤتمري سيفر ولوزان. فالبيشمركة باللغة الكوردية تتكون من مقطعين الاول ” بيش ” وتعني الامام، والثاني ” مرك ” وتعني الموت ، لذا يمكن تفسيرها على انها تحدي الموت او امام الموت، ” تيمناً بتاريخهم الحافل بالمعارك والقتال والشجاعة والبسالة وذلك في حربهم لنيل الحرية وإعلان دولتهم الخاصة .
تذهب غالبية الاراء الى ان الظهور الحقيقي للبيشمركة كان بعد اعلان الملا مصطفى البارزاني الحرب على حكومة عبدالكريم قاسم بعد توتر العلاقة بينهما، وذلك حين تجاهل الاخير المطالب التي رفعها البارزاني باسم الكورد الى حكومته، ولكن ذلك لايعد الرأي الراجح من حيث الدلائل والقرائن التاريخية التي سبقت تلك المرحلة بعقود كثيرة. حيث يذهب البعض الى ان قوات البيشمركة هي من اقدم القوات المسلحة في ما يسمى بالعراق الحالي حيث يعود تأسيسها الى عشرينيات القرن العشرين، بمعنى قبل سقوط الدولة العثمانية وانهيارها، مع وجود دلائل تؤكد بانه كان للكورد قوات قبلية نشأت في تسعينيات القرن التاسع عشر، حيث غلب في تلك الحقبة الزمنية المفهوم القبلي القومي على اغلب القوميات في الشرق الاوسط، وهناك من يرى بأن الكورد كباقي شعوب العالم يكافحون من اجل بناء دولة خاصة بهم، والتخلص من التبعية التي فرضتها الاجندات الدولية والمصالح الدولية حين الحقتهم بدول عنصرية ذات طابع قومي شرس، فانهم كانوا ومازالوا يحتاجون الى قوات عسكرية منظمة ومدربة ومسلحة باسلحة متطورة، وهذه القوات هي التي سميت منذ تلك الحقبة بالبيشمركة، ويمكن ارجاع تشكيلها الى سنة 1889 حيث كانوا وقتها مجرد قوات قبائل لحماية حدود الدولة العثمانية، وبعدما سقوط الدولة العثمانية اصبحت تلك القوات اكثر تنظئما واقوى واكثر عدداً، لاسيما حين بدأ الكفاح الكوردي المسلح ضد المستعمرين لارضهم وضد اصحاب المصالح ممن قسموا كوردستان الى اربعة اجزاء بعد معاهدتي سيفر 1921 ولوزان 1923.
تظهر الحقائق التاريخية ان الكورد قاوموا الكثير من الدول الاجنبية ممن عملوا على تأصيل عملية التقسيم وابعاد الكورد عن مساعيهم لتأسيس دولة قومية مستقلة، وبعيداً عن الظروف والاسباب سواء الداخلية التي تخص الكورد انفسهم من تشتت وعدم وجود قيادة موحدة وكذلك التبعية لاجندات خارجية للحفاظ على المصالح الحزبية فان تاريخ البيشمركة لايمكن انكاره في خوض معارك طاحنة مع الاتراك من جهة، والفرس من جهة اخرى والاعراب -الدول العربية كالعراق وسوريا – من جهة اخرى ، فضلاً عن المعارك مع الانكليز حين كانوا يسيطرون على المنطقة الكوردية، ورسيا القيصرية ايضا، وعلى مر التاريخ والكفاح الكوردي المسلح فقط تواترت الاحداث وتغيرت المعطيات وبقي المقاتلون الكورد بنظر الامة الكوردية مقدسين، لذا من الصعب جدا تحديد الفترة التي يمكن اعتبارها التأسيس الحقيقي للبيشمركة باعتبار ان الكورد يطلقون على مقاتليهم تلك التسمية، ولكن مع ذلك ومن خلال تتبع الدلائل التاريخية للتسمية نفسها كمصطلح يمكن اعتبار الفترة التي سعت فيها الحركة التحررية الكوردية لنيل حقوقها في ما يمسى بدولة العراق الحالية هي البداية الفعلية لظهور التسمية وليس الكفاح المسلح ضد الحكومات المتعاقبة والاطراف التي احتلت كوردستان واراضي الكورد، ولذلك توجد اراء كثيرة حول كيفية ظهور التسمية حيث يرى الدكتور محمد زايد – أستاذ الشؤون الكوردية بجامعة الأزهر – إن أحد افراد قوات البيشمرگه القدماء أخبره إنه في عام 1933م، كانت إيران تقوم بحملات عسكرية شديدة ضد الحركة الكوردية التحررية، فتدارس زعماء الحركة الأمر، وتوصلوا إلى أنه لا بد من تشكيل جيش وقوات نظامية بهدف تنسيق النضال من أجل التحرر ، واثناء نقاشهم حول التسمية قال البعض “الفرسان”، وبعضهم قال “المقاتلون”، وبعضهم قال “الفدائيون”، وبعضهم قال “المناضلون”؛ في أثناء ذلك كان الساعي أو العامل الذي يعد القهوة لهم، ويدعى أحمد دسمال، يستمع لما يقولون، فحين دخل عليهم سألوه باعتباره ايضاً احد افراد البيشمركة فاقترح عليهم اسم: “بيشمرگه” حيث نال الاسم إعجابهم وموافقتهم، ومن هنا جاءت التسمية، وفي رأي اخر مقارب لهذه الرواية وفي نفس الفترة الزمنية اي اثناء الصراع المحتدم مع الايرانيين الفرس اجتمعت القيادة الكوردية للعمل على تنظيم قواتها واطلاق تسمية عليها، حيث كان القاضي محمد واصدقائه يخططون لتأسيس جمهورية كوردستان، وهناك واثناء التباحث ذكرت احدى النساء الكورديات اللاتي شاركن في العمل السياسي وقتها، ان احد افراد اسرتها قد ضحى بروحه من اجل القضية الكوردية ” مه رك بيشكر ” فاتفق الحاضرون على تسمية ” بيشمركة” مستوحين من كلامها.. في حين هناك رأي اخر يذهب الى انه عندما تأسست قوات البيشمركة في بداية عشرينيات القرن العشرين، كمجموعات مقاتلة، قد شاع استخدام اسم البيشمركة بعد أن أطلقه السياسي والمثقف الكوردي إبراهيم أحمد على الجناح العسكري للحزب الديمقراطي الكوردي الذي شارك في تأسيسه مما يعني بعد عام 1946، لاسيما وان البارزاني مؤسس الحزب كان ممن التحق بما يقارب الالفين مقاتل من البيشمركة بجمهورية كوردستان في مهاباد التي ترأسها القاضي محمد، وهناك رأي اخر يذهب الى التسمية ظهرت الى الوجود في ايلول سبتمبر 1961، عندما ثار الملا مصطفى البارزاني ضد حكومة عبدالكريم قاسم، مطالباً بمعاملة المنطقة الكوردية معاملة خاصة والاهتمام بوضعها المتخلف اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً، على هذا الاساس فان غالبية الاراء تجعل من الحركة التحررية التي قادها البارزاني هي المحطة الابرز لظهور التسمية وذلك ما يدفعنا الى القول بان مشاركة البارزاني في دعم الحركات السياسية والمسلحة التي قادها الشيخ محمود الحفيد 1919 تعد البداية الحقيقية لظهور البيشمركة وتسميتهم على الصعيد المحلي ” جنوب كوردستان ” حيث ان تلك القوات ناضلت فيما بعد الحكومات العراقية في العهد الملكي كما ناضلت ضد الانكليز والحكومات العراقية في اكثر من معركة وانتفاضة، لاسيما بين اعوام 1940-1945، واستمرت في نضالها وكفاحها الى ان مابعد حكومة عبدالكريم قاسم. حيث شهدت قوات البيشمركة تطورات نوعية بعد التحاق عدد كبير من ضباط الجيش العراقي من الشيوعيين والقاسميين بها، فتطورت تشكيلات البيشمركة واتسعت.
استمر النضال والكفاح المسلح لقوات البيشمركة ضد الحكومات العراقية المتعاقبة، ومر ذلك النضال بمراحل تاريخية عديدة وبظروف داخلية واقليمية متغيرة ساهمت بشكل واخر في تقوية جبهات البيشمركة احياناً وفي احيان اخرى في اضعافها، لاسيما بعد اتفاقية الجزائر 1975 حيث تخلت ايران وقتها عن دعم البيشمركة في حربهم ضد الحكومة العراقية، ولكن ذلك لم يمنع ابدا ان تظهر بين فترة اخرى قطاعات من البيشمركة لضرب الاهداف العسكرية العراقية بالذات، معلنة وجودها وعدم انتهائها، لاسيما بعد ان ظهرت احزاب وحركات كوردية اخرى على الساحة في جنوب كوردستان، حيث اصبحت التوجهات الفكرية والأيدولوجية للبيشمركة ترتبط بالأحزاب والحركات التي تنتمي إليها، وتراوحت الأطر الفكرية للاحزاب الكوردية بين القومية واليسارية والإسلامية، وتمثل إقامة دولة مستقلة للكورد الخيط الناظم بين كل هذه الأطر الأيدولوجية، والهدف السامي الذي مازال البيشمركةيناضل ويضحي بنفسه وباغلى ما لديه من اجل تحقيقه.
1/5/ 2019