وقفة مع طبيعة الصراعات الاجتماعية والدينية في العراق.. صباح كنجي

 

الهدف من هذه السطور ليس تعداد وتكرار المشاكل والمآسي والمحن التي تحيط بالعراق ومن يسكن فيه من العراقيين وغيرهم.. وليس الهدف منها أيضا الشكوى وذرف الدموع على ما مضى من احداث واستذكارها وندبها كما هو الحال مع رثاء اور..

وإنما الهدف الوقوف على جوانب من المعضلات التي تواجه العراقيين وتحليل أسباب وديمومة العنف السائد والمتواصل فيه:

1 ـ عنف الدولة

2ـ عنف المجتمع 

3ـ عنف الأحزاب 

والجامع بينها خاصة.. وإننا نعيش أجواء الـ 100 عام على تأسيس الدولة “الحديثة” في العراق.. وما زلنا نكرر ونستخدم عبارات اللا دولة.. او الدولة الفاشلة.. وأحيانا الدولة المتهرئة.. هذا الكيان او الجهاز المفقود عملياً وتاريخياً..

إذا تمعنا بالنظر ودققنا في فواصل الزمن.. مع مشهد الدويلات المتحاربة التي شهدت صراعات ماحقة في عدة مدن تاريخية انتجت عدة امبراطوريات.. يصعب تحديد معالمها الجغرافية بدقة.. افتقدت لأي شكل من أشكال المواطنة.. في عهود ما قبل التاريخ.. والعصر الإسلامي بكافة مراحله.. الذي افتقد هو الآخر أي معلم من معالم المواطنة.. ومفاهيم الدولة الوطنية بحكم النزعة الدينية السائدة.. ومفاهيم ثقافة الصحراء.. التي اندمجت في سياقات الإمبراطورية الإسلامية.. على اختلاف مراحلها.. حتى دولة الخلافة الإسلامية الاجرامية.. التي شهدنا شناعاتها.. وكانت تطبيقاً معاصراً للعنف الديني المدعوم.. من قبل عناصر وتكوينات حزب البعث ومخلفات العهد الصدامي المقبور..

ناهيك عن توظيف هذا العنف من قبل المؤسسات الرأسمالية.. ودول الإقليم.. وبعض القوى المحلية بما فيها أطراف كردية.. تخاذلت وتواطأت معه في لحظة التباس وحسابات خاطئة..

وتحولْ أبرز هذه الأحزاب (الإسلامية والكردية والعربية) في مجرى الصراعات المحتدمة الى مؤسسات مالية.. تسند سلطات عائلية تعتمد على قوة ميليشياتها.. وشبكة علاقاتها الإقليمية والدولية.. بدلاً من جمهورها المخذول.. الذي يعيش المحن والصدمات المتتالية.. ويشهد مظاهر تفكك المجتمع وانحلاله.. والعودة لإحياء دور القبائل.. في ظاهرة تسعى للتماهي مع الأحداث الجارية.. وتتناقض مع طبيعة العصر التكنولوجي.. ومتطلبات العيش فيه.. التي تشهد تطوراً عاصفاً في كافة المجالات..

لكننا ما زلنا ننغمس في صراعات محلية.. ونعتمد على محركات ووسائل بحث.. تدخلنا في إطار دوامات تتسلسل وتتواصل.. تكثر مخاطرها وتتشعب معاناتها.. كأننا فقدنا الرؤية وأضعنا البوصلة.. وأصبحنا عاجزين.. لا نتمكن من تحديد الاتجاه..

حيث تتأزم يوماً بعد آخر مشكلة المواطنة وتستفحل مظاهر الاستبداد..

استبداد الدولة..

واستبداد الدين..

واستبداد الأحزاب..

الاستبداد المنتج للفساد والخراب.. في سياق معضلات تشمل ابعادا خطيرة تكرس:

1ـ تفاقم الظلم الاجتماعي..

2ـ واستفحال العبودية الدينية..

3ـ ناهيك عن الاستغلال الطبقي..

 الاستغلال الطبقي الأقل وطأة وتأثيراً.. بالمقارنة مع الظلم الاجتماعي ومظاهر العبودية.. التي شملت أعداد وفئات أكبر وأوسع.. واستهدفت مجموعات سكانية.. اقتلعتها من بيئتها.. كما هو الحال مع العنف الطائفي الذي اكتسح العديد من القرى والمدن.. وأنتج دولة الخلافة الإسلامية الاجرامية ـ داعش.. التي وجهت نحو مجموعات سكانية متباينة ومختلفة.. في بغداد والمحافظات الغربية وكركوك والموصل وعدد من بلدات كردستان..

وشملت جرائمها.. فئات وتجمعات دينية بعد ان استهدفت قرى ومدن سهل نينوى ومناطق كركوك التي يتواجد فيها اتباع الديانات الأخرى.. من كاكائية ومسيحيين وإيزيديين والشيعة التركمان.. وكانت الذروة فيما حل بسكان سنجار من جرائم بشعة.. يندى لها الجبين.. معروفة للجميع..

في المحصلة من هذا الاستعراض السريع يمكن القول اننا فشلنا في:

1ـ بناء الدولة.. دولة المواطنة ونجحنا في تكوين دولة الاستبداد والقمع والفوضى..

2ـ وفشلنا في وضع حد للعنف المنفلت السائد بيننا لليوم.. و”سمحنا” للمزيد من الخراب والدم المراق..

3ـ وفشلت وعجزت احزابنا من تطبيق برامجها الاجتماعية المعلنة.. وشمل الفشل بدرجة رئيسية التيارات والأحزاب العروبية والقومية ـ البعثية.. التي استلمت السلطة ومارست القمع والدكتاتورية.. وانخرطت في الحروب المدمرة..

وفشلت وعجزت الأحزاب التقدمية.. الحزب الشيوعي العراقي في مقدمتها.. من تحقيق برامجها وأصبحت شعاراتها خارج سياقات التاريخ.. بعد ان عدنا لمظاهر التخلف والتفكك.. وأصبحت القبائل والعشائر تحدد اتجاه الاحداث.. ناهيك عن القوى المتخلفة.. التي تتمظهر وتتعكز على الدين بكافة الوانها وتسمياتها..

ولو توقفنا عند الذي يجمع كل هذه ـ الخبطة التاريخية ـ من محن وويلات وعنف وفشل.. لوجدنا ثمة عوامل ومسببات اجتماعية ـ قبلية متخلفة.. من مرحلة ما قبل التاريخ.. تتوارث المفاهيم والتسلط لتؤسس عبر هذا الزمن الطويل.. ما يمكن وصفه بالرابط المؤثر والمشترك بين القبيلة والدين والأحزاب.. المنتجة للخراب الذي ما زلنا نعاني منه..

وللأسف لم نتوقف عند ابعاده وتأثيراته الكبيرة المعرقلة لبناء الدولة.. واقصد بها دولة المواطنة والخدمات وليس دولة القبيلة والأحزاب.. وما زلنا للأسف أيضا.. نفتقد لمفهوم دولة المواطنة.. ونسعى لتطبيق مفاهيم الدولة المعادية للجوار.. كأننا في صراع تاريخي ـ أزلي مع إيران او تركيا وبقية الدول والشعوب.. دولة تستند على مفاهيم الصحراء ومبدأ التغالب والتحفز.. وترفض التشارك ومبدأ السلم والاستقرار..

وزاد من تعقيد هذه المعضلة.. الانقسام ونشوء الطوائف الدينية.. التي اخذت ابعاد أخرى.. وأزمت الموقف.. ورفعت من حدة الصراع بين فئاتها.. ومنحته الأولوية والصدارة.. وتوريث تقاليد الاختلاف والتباين في المجتمع.. بين المسلمين وغيرهم.. من “الكفار”.. غالباً هم من اتباع الديانات الأخرى ومواطنين من درجات أدنى (حيث شهدنا موجات العنف ضد الايزيديين واليهود والمسيحيين من (الارمن والآشوريين والسريان والكلدان) والمندائيين والكاكائية وغيرهم) ناهيك عن الصراع السني ـ الشيعي.. وما رافقه من جرائم في حقب تاريخية متواصلة من مختلف العصور.. وما عشناه نحن في هذا الزمن..

 هذا التأثير الكبير والمتواصل للدين.. وهذه المشاهد الدامية المعرقلة للتطور.. لم نتوقف عند ابعادها بشكل جدي ومارسنا النفاق الاجتماعي والسياسي.. في التعامل مع نتائجها.. وما زلنا نجامل ولا نتجرأ لقول الكلمة الفصل في هذا المجال..

ولا نتطرق اليه كعامل جدي معرقل للتطور.. يستند لنفس القاعدة الاجتماعية البدوية.. التي ما زالت تتحكم باتجاهات الأحداث في المجتمع.. من خلال الدين والأحزاب والمنظمات الخاضعة لها وتمدها بالقوة والديمومة كأننا في حالة تأهب وغزو صحراوي..  والاستعداد الكامل لخوض النزاعات وممارسة القتل واللجوء للعنف في كل لحظة..

وفي هذا التماهي مع الأحداث لا تختلف طبيعة سلوك الأحزاب.. مع قادة القبائل.. وما زال الانتماء للهوية المحلية ـ الدينية او الطائفية لا يشكل عائقاً او مانعاً.. امام الأحزاب المدعية للوطنية.. لتسير في ذات الدرب.. وتمارس نفس الممارسات.. طالما كان التكوين الحزبي يضمن لها هذا ” الحق” في فرض الإرادة والوصول للهدف.. بعد ان تم نقل الصحراء الى أجواء المدن.. وأصبحت ثقافة الصحراء جزء مكملا للمدن.. التي يجري التحكم بها والانطلاق منها لتوسيع دائرة النفوذ..

وما يحدث الآن في سنجار من صراع ارادات وفرض وجود لقوى محلية عنوة.. يحمل في طياته ابعاد دولية وإقليمية تجري بالضد من مصلحة أهلها وسكانها المسالمين.. حيث تجتمع وتتخاصم عدة قوى مسلحة فيها.. بعضها تابع لإقليم كردستان واخرى للحكومة المركزية.. ناهيك عن فصائل ومجموعات حزبية تابعة لعدة أطراف وحشود من فصائل الحشد الشعبي غير موحدة وتتبع مراكز استقطاب متعددة.. تشكل بقوامها مجتمعة أكثر من 30 ألف مقاتل ومسلح معبأين بالكره والحقد ضد الآخر..

ومن الغريب والعجيب أن يتفق الجميع على مصادرة حق أهالي سنجار.. في التواجد الحر في مناطقهم ولا يحركون ساكناً منذ 7 سنوات مضت على تحرير المنطقة والخلاص من داعش.. لإرجاعهم الى مدنهم وقراهم..

ناهيك عن استعدادهم لإعادة اعمارها وتوفير الخدمات وتحقيق الأمن والاستقرار لهم.. في الوقت الذي يسعون فيه بلا خجل.. للتحكم بالقضاء ومحيطة.. من خلال اتفاقات جانبية بالضد من إرادة المنكوبين السنجاريين.. كما حصل من اتفاق مخزي بين الحكومة المركزية مع حكومة الإقليم.. بمباركة الحكومة المحلية في الموصل والدول الإقليمية المجاورة..

وإذا كانت الحالة في سنجار نموذجاً لما يحصل امام انظارنا.. فإننا مطالبون لتجاوز الواقع المبتذل في عموم العراق..

باستقراء حقائق التاريخ وتجاربه المريرة الدامية..

وتحديد أسباب الفشل في بناء دولة المواطنة..

وتواصل العنف المنفلت ودوافعه الاجتماعية والدينية والسياسية..

وتشخيص القوى المعرقلة والكابحة للتطور.. وتحديد دور الدين الواضح في هذا المجال باعتباره حلقة الوصل التي تغذي شريان العبودية وتحد من محاولات الشعوب للانعتاق والتحرر والتطور..

واستكمال هذا التشخيص بتحديد القوى الاجتماعية ـ القبلية المناهضة للتقدم والبناء.. الرافضة لأي شكل من اشكال سلطة الدولة.. وتعتبرها مهددة لسلطة القبيلة.. المنتجة للأحزاب الدينية ـ القبلية.. المفتقدة للنوازع والروح الوطنية.. التي تتطلب التخلي عن الهويات المتدنية.. والاندماج في مشروع بناء دولة المواطنة.. الساعي لمعالجة المعضلات الاقتصادية والزراعية والبيئية والصحية المتفاقمة التي تواجه المجتمع العراقي.. وتوفير الخدمات الملائمة للإنسان والعمل في هذا العصر التكنولوجي المتقدم..

وهذا يحتاج الى مؤسسات سياسية ـ اجتماعية جديدة.. تترفع عن رذائل الواقع الراهن.. وترفع من مستوى الصراع.. وتوجهه لصالح بناء الوطن.. واستعادة الدولة.. وتجاوز الصراعات الدنيئة والبالية التي عفا عليها الزمن.. والتخلي عن مظاهر الاقتتال والعنف.. ورفض عسكرة المجتمع وتسخير واردات الدولة للتنمية وتوفير الخدمات.. وتحديد نسبة لا تتجاوز الـ 15% فقط من واردات الدولة للعسكر والأمن والدفاع..

مؤسسات وأحزاب علمانية.. تشخص اخطائها.. وتبادر لوضع الحلول لها وتتجاوز ازماتها في الوقت المناسب.. ومعالجة آثارها ومخلفاتها وتعيد بناء نفسها بثقة ورؤية معاصرة.. تستند الى المتغيرات المتسارعة في العالم.. وتتطلع للمستقبل لتعبر عن الأمل الاجتماعي.. وتصوغ البرامج الممكنة للتطبيق وخلق مقدمات التغيير والانعطاف نحو الأفضل.. لصالح الأجيال.. واستقطاب طاقاتهم في اطر ومؤسسات فاعلة.. تجمع قواهم وتوحدها في كتلة عمل.. لمواجهة قوى الفساد والظلم والعبودية.. التي تتشبث بالسلطة.. وتسعى لمنع محاولات التغيير.. وتجهض المساعي وتقمعها.. في نطاق تحالفات المحاصصة سيئة الصيت..

والمطلوب من القوى اليسارية والعلمانية ان ترتقي الى مستوى المهام التي تواجه الشعب العراقي بكافة تكويناته وشرائحه.. وتبادر لطرح مشروع انقاذ وطني.. في نطاق جبهة او تحالف تنسيقي واسع النطاق يرتكز على قاعدة اجتماعية عريضة ومتجددة من الشباب والنساء.. القادرين على خوض الصراع ومواجهة قوى الفساد بكافة اشكاله السياسية والاجتماعية والدينية.. وقبول تحدياته واستحقاقاته المطلوبة منهم.. وفقاً للممكن والمتاح من إمكانيات.. نعتقد انها موجودة ومتنامية.. وتحتاج للرعاية والدعم..

لنسير في بداية الطريق نحو بناء دولة المواطنة.. ونبذ العنف.. ومواجهة تحديات العصر بوعي وإدراك..

لنقطع الصلة بحلقات العنف والتخلف المنتجة للتفكك والخراب والمحن..

ولنتطلع نحو عراق حر جديد ومتجدد.. خال من الفساد والمفسدين.. عراق المواطنة وحرية الانسان التي لا تتجزأ..

لنخلق بإرادتنا الحرة مقدمات التغيير المطلوبة.. كي نضمن مستقبلاً افضلا لنا وللأجيال القادمة..

الحرية لا تتجزأ..  لا للظلم الاجتماعي.. لا للعبودية الدينية.. لا للاستغلال الطبقي..

ـــــــــــــــــــ

28/5/2022

 

ـ هذه الأسطر هي محتوى حوار بعنوان (وقفة مع طبيعة الصراعات الاجتماعية والدينية في العراق) لندوة بادرت لتنظيمها والاعداد لها مشكورة (اللجنة التنسيقية لتجمع دعم الانتفاضة والتغيير في العراق / المانيا) ويمكن العودة لها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي واليوتوب..