حين يتحول الفساد الى حِرفَة.- جوتيار تمر/ كوردستان

 

تتغير المسوغات الدلالية من حيث الظاهر حول ما يتعلق بالفساد، إلا انها في المضمون والمدلول تتفق وفق سياقات متناغمة ومتناظرة في بعض الأحيان، وغالبيتها تؤيد أن الفساد هو السبب الرئيسي للتفسخ الاجتماعي والانحلال والابتعاد عن القيم الإنسانية التي تعطي الانسان هويته، واختلافه عن باقي المخلوقات، فقد جاء تعريف الفساد من حيث اللغة: على انه ضد الصلاح ، أفسد الشيء أي أساء استعماله، فسَدَ الرجلُ: جانب الصواب، عكسه صلَح، وفسَدَ الحالُ أو الأمرُ أو الشَّيءُ: اضطرب، خرِب، أصابه الخلل(أحمد مختار عبد الحميد عمر معجم اللغة العربية المعاصرة، فسد”2/1634)،  اما مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقد عرف الفساد  على انه، التّلف والعطب وَالِاضْطِرَاب والخلل والجدب والقحط،( المعجم الوسيط، 2/688)، بينما عرفت معاجم أخرى لغوية الفساد بانه تحول الشيء من حالته الطبيعية الى حالة متفسخة( عماد صلاح عبدالرزاق، الفساد والإصلاح، ص32)، كما عرفه معجم اوكسفورد على انه انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة.

أما تعريف الفساد اصطلاحاً فقد تعددت المصادر التي تناولت الفساد، وكانت النظرة اليه ومحاولة تعريفه من الباحثين تتأثر بالمنظور الذي ينطلق منه الراغب في تعريفه، وبتعدد الاشكال التي يتخذها وتعدد المجالات التي يمكن ان ينتشر فيها ، فعند الفقهاء أتى الفساد بمعنى بطلان العمل وعدم ترتب آثاره عليه، فالفساد اعظم من الظلم، لأن الظلم نقص: فإن من سرق مال الغير فقد نقص حق الغير، والفساد يقع على ذلك وعلى الابتداع واللهو واللعب( الكفوي، الكليات، ص692)، وعند القانونيين: هو خروج عن القانون والنظام (عدم الالتزام بهما) أو استغلال غيابهما من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للفرد أو لجماعة معينة، فهو سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام تطلعا إلى تحقيق مكاسب خاصة مادية أو معنوية. وهناك اتفاق دولي على تعريف الفساد كما حددته “منظمة الشفافية الدولية” بأنه ” كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته “، إساءة استخدام السلطة الرسمية الممنوحة له سواء في مجال المال العام أو النفوذ أو التهاون في تطبيق النظام أو المحاباة وكل ما يضر بالمصلحة العامة وتعظيم المصلحة الشخصية( آمنة محمد علي، الدور الرقابي للنساء في مجلس النواب العراقي واثره في مكافحة الفساد، المجلة السياسية والدولية، ص939)، وعليه يمكننا أن نعرف الفساد بصفة عامة على أنه: خلل يعتري الفعل يوقع الضرر بالنفس أو بالغير،(  امامة عماد حماشة، بيان مفهوم الفساد في سياق الآيات القرآنية والاحاديث النبوية وانواعه واسبابه، مجلة الجامعة للدراسات الإسلامية، ص769).

وبعيداً عن السياقات اللغوية والاصطلاحية والفقهية والقانونية للفساد، نجدنا أمام صور هي في الواقع تعاريف مباشرة للفساد، تعاريف تنم عن الفعل سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وذلك من خلال رصد الواقع العياني الذي نعيشه وفق معايير الاجتماع، أو بعبارة ادق وفق المدلول السوسيولوجي، فما نجده من معطيات وافعال تصدر عن بعض الفئات ضمن الاطار العام للمجتمع لاسيما السلطة وارباب السلطة، تُعد في كينونتها المفهوم الحقيقي والصحيح لكل أنواع الفساد، حيث نلامس من تبعيات سلوكياتهم على المستويين (الفعل -القول )، انحلالاً واضحاً وابتعاداً سافراً عن الاخلاقيات الإنسانية، لاسيما فيما يتعلق بالنزاهة، والأمانة، ضمن الأطر العامة والخاصة، أو لنقل ضمن القطاع العام والمؤسساتي الوظيفي والخاص ( حول ذلك ينظر: سليمان عبد المنعم، قراءة في ملف الفساد – السوس – الذي ينخر في عظام مؤسستنا، مجلة الديمقراطية، ص101)، والغريب في الامر أن الفساد في صورته العامة أُلصق بكل ما يتعلق بالقطاع الوظيفي الحكومي والسياسي السلطوي، فضلاً عن الذين ينخرطون ضمن دوائر الانتماء الحزبي وهو شكل آخر من اشكال الوظيفية – الفساد – الذي يُعرف ب(تحت الجدار)، أو الفضائيون، فضلاً عن الحكومات والقائمين على امرها واربابها واذنابها، وقلما نجد الاجتماع ينظر الى الفساد خارج تلك الدوائر على الرغم من أن الفساد المهيمن على القطاع الخاص لاسيما التجار والطبقة الوسطى المهيمنة على السوق، قد تحول الى حِرفة لديهم، فاصبح هؤلاء الوجه الثاني للفساد الكبير، واثاره الاجتماعية اكبر من الاخر، وذلك لأن الكسب غير المشروع المقرون بالغش، فضلاً عن حالات الاحتيال التي شاعت وانتشرت بين الأوساط العامة، هي في الأصل من اهم أسباب التفكك الاجتماعي وانتشار الفساد بين شرائح المجتمع، فضلاً عن الانحلال والاستغلال بكل اوجهه، (حول ذلك ينظر: مايكل جونستون، متلازمات الفساد – الثروة، والسلطة، والديمقراطية، ص 36-37)، ذلك التفسخ الاجتماعي يولد في الأصل خلل واضح في بنية المجتمع، بدءاً بالأسرة، وانتهاءً بالدولة، حيث نرى التفكك والأنانية تعم أفراد المجتمع، ومن ثم يسود بين أفراده الحقد والحسد ومكيدة بعضهم للبعض،  فيصبح الفساد بصورته الاجتماعية تفككاً وفوضى ، ويؤدي الى ضعف يطرأ على العلاقات الاجتماعية في المجتمع أو مكونات النسق الاجتماعي، وتدهور الضوابط الاجتماعية، وانهيار القيم والأخلاق في المجتمع، واضطراب النفوس، وكثرة القلق والحقد على الآخرين، وغير هذا من النوازع التي تسعى إلى تخريب المجتمعات، وتؤدي في بعض الأحيان الى سفك الدماء وانتشار الجرائم المختلفة، ( ينظر :  دراسة بعنوان ، مواجهة الفساد الإداري من منظور إسلامي) .

عند اسقاط هذه المفاهيم على الواقع الذي نعيشه في مجتمعاتنا سنجد مدى تعمقها وتجذرها في كل البنى الاجتماعية وكل الشرائح دون ان نقيسها على شريحة واحدة، وبذلك يمكن القول أن الفساد تحول الى حِرفة يمتهنها اغلب فئات المجتمع، ولم تعد محتكرة على فئة دون أخرى، فالطبقة السياسية والحاكمة هي الواجهة المعروفة للفساد سواء الفساد السياسي أو الأخلاقي أو المالي أو الإداري وحتى الاجتماعي، وكل الاتهامات توجه اليها وأصبحت في مجتمعاتنا شمعة تقوم الفئات الاجتماعية الأخرى تحرق انحرافها وفسادها تحت مظلتها، والغريب اننا لا نستوعب الامر إلا بعد فوات الأوان، ودائماً نجدنا نعيب على الحكومات فسادها ونتجاهل النظر الى مكملات ذلك الفساد، والذي يؤثر بشكل كبير على جميع شرائح المجتمع، فالتاجر الذي يعايش المتحولات والمتغيرات الاجتماعية لا ينأى بنفسه عن استغلال واقع المجتمع المتردي، وتفشي الفقر بين فئاته لاسيما الطبقة العامة والكادحة، وحتى صغار الموظفين، فيحاول ان يتفق مع الشركات المنتجة الأجنبية على انتاج بضائع دون مستوى الجودة، وذلك لكسب بعض الأرباح، كما ان الصناعات المحلية ومالكيها، لا يتجنبون الاستغلال في صناعاتهم وتخريجها بأدنى مستويات الجودة، لكسب بعض الأرباح، حتى البائع العادي يغش في المعايير والموازين للكسب غير الشرعي، وقِسّ ذلك على جميع المجالات الأخرى، وذلك ما يثبت ان الفساد المنتشر بين فئات المجتمع ليس إلا مظهر حقيقي من مظاهر التفسخ الاجتماعي العام، والذي يشمل الحكومات وارباب الساسة والتجار والطبقات الأخرى، وبالتالي فان تفشي المحسوبية والوساطة والرشوة والابتزاز الوظيفي والاستغلال الوظيفي، وحتى إساءة استعمال السلطة، والإهمال الوظيفي، الاحتيال، النصب، الاختلاس، التزوير، غسيل الأموال، الاستيلاء على المال العام، العمولة، الغش، التدليس، التقصير، الإهدار، التهرب الضريبي، الانحلال الأخلاقي، تفشي المخدرات، والتباهي بالانحراف، وغيرها من اشكال الفساد تُعد بمجملها الواجهة الحقيقية للمجتمع ، وبالتالي يكون اغلب فئات المجتمع مشاركين في تأصيل الفساد وانتشاره وتأمين مصادره، (حول ذلك ينظر: طه فارس، أسس مكافحة الفساد الإداري والمالي في ضوء السنة النبوية، ص9).

إن تحول الفعل والقول من حيث المدلول الفسادي، ليس مجرداً من التحولات العامة التي تساهم بشكل واخر في ترسيخ مبادئ الفساد نفسه، فحين نتهم الحكومات والأحزاب والمؤسسات بالفساد، فإننا لسنا اقل فساداً منهم، لأننا نرى فسادهم باعين بصيرة، وندرك حجمها واثارها السلبية على حياتنا العامة، وعلى مستقبل بلداننا، والقضايا التي ننادي بها، ونعلم بأنها في النهاية ستؤدي الى ضياع المكتسبات التي بين أيدينا، وستعيدنا الى مرحلة العبودية والخضوع للمنظومات الإقليمية والدولية، لكننا نتجاهل كل ذلك، ونحاول بكل الوسائل الكسب غير المشروع، لذلك فان ما نقوم به نحن من أفعال تعطي شرعية لفساد غيرنا، بحيث اصبح الفساد مهنة نمتهنها، وحِرفة نزاولها على جميع الأصعدة.