عندما أحسَ بإن قلبه تعلق بها ، حاول جاهداً أن يقنعها بحبه لها واستعداده بالتضحية من أجلها وأقسم لها أغلظ الإيمان بحسن نواياه ، بدأ يتقرب منها ويرسم لها الحياة الجميلة التي ستجمعهما سوية ، وبما إنها أحبته أيضاً أصبحت تصدق كل ما يقوله لها من حلاوة اللسان ، فأخذ يستدرجها يوماً بعد يوم حتى تمكن منها وأوقعها في المحظور ، فقام من فوقها منفوش الريش متبختراً بما نال من هذه الفتاة المسكينة البريئة الصادقة في أحاسيسها ، فانتبهت هي للخطأ الذي أرتكبته بحق نفسها فقامت تتوسل إليه أن لا يتركها ويستر لها مافعله بها ، فكان جوابه أنه لا يتشرف بأمرأة سلمت نفسها بسهولة لمن خدعها ! في مجتمعنا يعتبرون مثل هذا النذل رجل ونعم الرجل ويعتبرون تلك المسكينة المخدوعة فاسقة و عار تستحق القتل ، هذا يعني بأن النذالة من صناعة المجتمع ، وسحق الشرف من صناعة المجتمع أيضاً ، فلو كان هذا النذل يعرف بأن المجتمع سيمقت سلوكه هذا ، ما تجرأ على الفعل السيء لذلك لا نستغرب بكثرة الأنذال في مجتمعاتنا لأنهم حسب نظرة المجتمع رجال يستطيعون تصريف شهواتهم ، وهكذا يتم تفسير وفهم المثل الشائع المتداول عند الناس ( فاز باللذات من كان جسورا ) ، ولكي لا يذهب التفكير فقط على الجانب العذري في القصة ، فهذه مجرد بوابة صغيرة لعالم النذالة الواسعة .
في إيام النظام البوليسي السابق أيام حزب البعث كان رجال الأمن عندما يريدون إعتقال أحد المشتبه بهم بأي قضية كانت ، سياسية او شخصية ، يطرقون باب بيته ويطلبون منه أن يتفضل معهم لمشوار قصير ، وعلى طريقة الأنذال يقودونه إلى المصير المجهول ويرمون به في الزنزانات المظلمة ليلاقي قدره . في العام 2003 م وبعد سقوط بغداد زحفت عشرات الالاف من كوادر الاحزاب الدينية المتواجدة في إيران إلى أرض الوطن بعد سنين طويلة من الغربة والألم ، فكانت خطواتهم الأولى الإلتقاء بعوائلهم ومحبيهم في المحافظات العراقية كافة ، في تلك الفترة زارني صديق الى المخزن الذي كنت أمتلكه في منطقة السنك ببغداد الخاص ببيع العدد اليدوية والبراغي ، فقال لي إنه التقى مع مجموعة من عناصر الاحزاب الدينية القادمة من إيران مبدياً أعجابه بهم وكان يردد القول بإنهم ملائكة وليسوا بشراً لشدة تأثره بهم وباخلاقهم وأسلوب تعاملهم ، ثم أردف يقول سيعيش العراق في ظل تلك الملائكة أرقى نظام حكم على الارض ، ولسان حاله يقول نحن محظوظون ياالهي على هذه النعمة ! كانت فرصة أن أسرد له تلك القصة العذرية أعلاه ، وقلت له هذه هي صفاتهم في بادىء الأمر ، عندما يكونون ضعفاء ، شهواتهم الجنسية أو ملذاتهم الأجرامية أو المالية لم تتحقق بعد فإنهم أكثر نعومة من الحرير يرسمون لك المستقبل الجميل ، وبعد أن يستقوون ويحققون رغباتهم تظهر نذالتهم بلون صارخ ، فأمتعض صاحبي من كلامي وغادر المحل محتجاً على طريقة تفكيري ، وانقطعت أخباره عني ، ولكن بعد سنين طويلة التقينا بالصدفة فقال لي قبل أن أبادره السؤال عن احواله ، قال هناك في مجتمعنا صنفان من الناس ، الصنف الاول هم الاموات وقال عن نفسه أنه أحدهم ، ثم وصفهم بإنهم الذين لا يدركون حقيقة الناس وحقيقة الحياة وحقيقة الأشياء ، وهم في غفلة عن الوعي وهؤلاء هم الغالبية العظمى ، والصنف الثاني هم الأحياء الذين غربلوا الدنيا بعقولهم وهم القلة القليلة وقال عني بأني أحدهم ، وهو يتحسر على خداع نفسه بهم ، قائلاً لا يمكن وضع مقارنة بين الأموات والأحياء ! ثم قال كنت أفكر فيك كثيراً ، وكنت أقول في نفسي بأنك ستتعب كثيراً يا اخي لأنك تعرف حقيقتهم ! . صاحبي هذا كان رئيس مهندسين في احدى وزارات الدولة العراقية .
الأنذال رصيدهم الوحيد في هذه الحياة حلاوة اللسان عندما تستوجب الأمور ان تكون ألسنتهم بطعم العسل ، يحدثونك بحلاوة اللسان وهم أهل لها ، ولا يستطيع أكبر ممثل إحترافي تقليدهم بها ، ونفس ألسنتهم هذه تتحول بقدرة قادر إلى مر حنظل أو سيف بتار عندما تنتفي الحاجة من الناس . وياليت ألسنتهم تتحول إلى مر حنظل وتكتفي ، لا ، بل وتسعى إلى الانتقام من كل من يكتشف زيفها .
أنا أعتبر معاناة الطبقة المثقفة هي فاتورة معرفتهم لحقيقة الأنذال الذين ينتشرون في مجتمعاتنا بكثرة ويتكاثرون بكثرة . من هم الأنذال ؟ لكي لا يغيبون عن أعيننا فلنشير إليهم بوضوح ، هم الذين يتلذذون بالغدر والخيانة وأولها خيانة الوطن ويحسبونها شجاعة وعقيدة ومبادىء ، هؤلاء هم الأنذال ، الذين يتلذذون بالرشوة في مجال عملهم الذي يتقاضون عليه أجراً ، هؤلاء هم الأنذال ، الذين يغشون في مهنهم وأعمالهم وبضاعتهم وألسنتهم هؤلاء هم الأنذال ، الذين يستثمرون وظائفهم لمصالحهم الخاصة هؤلاء أيضاً أنذال ، الذين يجعلون من الدين وسيلة لتحقيق غاياتهم هؤلاء في قمة النذالة ، الذين يستغفلون الناس البسطاء هؤلاء من الأنذال ، الذين يكتبون في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحافة ما يخلق الفرقة والكراهية بين الناس البسطاء هؤلاء من الأنذال .. دوائر الدولة والمستشفيات والوزارات والأحزاب والمؤسسات والصحافة تعج بالأنذال بحيث أصبح التنافس بينهم كبير لتبيان أيهم أشد نذالة وأشد خسة ، فبعد أن كان النذل يعيش العزلة داخل المجتمع أصبح اليوم يتباهى بنذالته ، والشريف النزيه أصبح هو الذي يعيش العزلة داخل المجتمع ! وداخل مؤسسات الدولة ! ، الأنذال يعلو صوتهم مع وجود السلاح المنفلت ، يعلو صوتهم مع ضعف القانون ، يعلو صوتهم عندما يخف صوت الشرفاء ، يعلو صوتهم في كل مناسبة دينية واجتماعية تخدم تطلعاتهم ، لأنهم مسنودون من قوة عليا تستطيع هذه القوة أن تصنع وتنتج النذالة ، ومن ساداتها يستمدون قوتهم وعزيمتهم . فكيف نتخيل شكل الحياة عندما يكون الأنذال هم وجهاء المجتمع ؟
مقالة رائعة ..الحياة هذه دائما تؤلم الناس الذين يحبون الصدق والطيبة ..مع الاسف
سرور
صدقت ، وشكراً للإضافة الجميلة
تحياتي