طوفان الأقصى يشعل حرب السايبر- د. نضير الخزرجي

طالما استوقفتني قصة النبي سليمان عليه السلام وهدهده والعلماء من حوله وعفاريت الجن الذي كانوا يعملون له، وبساطه الذي كان يجوب به أكناف الأرض، فكل جزئية من هذه السردية القرآنية دالة على علم غزير وسر عظيم لم يصل إنسان اليوم إلى معرفة كنهها رغم ما لديه من معلومات جمة منذ أن تفتَّحت لديه مغاليق العلوم التي أودعها الله في السموات والأرضين وجعل مفاتيحها في عقل الإنسان الذي علمه ما لم يعلم.
وينتابني الذهول أكثر فأكثر عندما ندرك أن النبي سليمان بن داود عليهما السلام المولود سنة 884 قبل الهجرة النبوية والمتوفى سنة 831 قبل الهجرة، عاش في هذه الأرض قبل 24 قرناً، والعلم الحديث الذي استطاع تطويع الحديد والذرة حتى ليظن المرء أن العلم وصله ذروته ومنتهاه فعمره أقل من قرنين، والفاصلة بين ما نحن عليه من علوم وما كانت على عهد سليمان عليه السلام، شاسعة زمانيا وعلمياً، فلم يصل العلم الحديث إلى ما وصل اليه علم الذي: (قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) النمل: 39، ولا علم: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) النمل: 40، وأتى به من اليمن السعيد دون طرفة عين وعندها قال سليمان عليه السلام: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) النمل: 40.
وأظل الى يومنا هذا أتساءل وربما غيري مثلي: أين ذهبت علوم عهد سليمان عليه السلام التي كانت من معالمها: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) سبأ: 12، وأين ملك سليمان الآن؟ وأين علومه وعلوم والده عليهما السلام: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) الأنبياء: 79- 81؟
وتظل الأسئلة حيارى في الذهن رغم ما كشفته حوادث طوفان الأقصى بفلسطين في 7/10/2023م وتداعياتها الجارية حتى تحرير هذه القراءة الموضوعية، من علوم خفية استعملتها حكومة نتنياهو ومن خلفها واشنطن والمحور الغربي لمواجهة الخصم العنيد في فلسطين حركة حماس، وحزب الله في لبنان، والتحرش بطهران التي تعمل منذ 45 عاماً على تعبيد الطريق للمسلمين للصلاة في القدس، ودخول المقاومة العراقية وحكومة صنعاء في ساحة المواجهة القائمة في فلسطين.
ومع أن الأسئلة تظل حتى هذه اللحظة بلا جواب، ولكن حوادث ما بعد طوفان الأقصى أجابت عن جانب من تلك الأسئلة المتسربلة بلباس الغموض، عندما استخدمت الأطراف كلها ما عندها من علوم خفية في الحرب التي ظاهرها نيران وحديد منصهر وبنيان منهدم، وباطنها حرب عصية قوامها الإلكترون الذي تم تطويعه لسرقة برامج الآخر الإلكترونية وما يختزنه حاسوبه من معلومات سرية، أو تجميد عمله من أجل تسهيل الإنقضاض على أهداف معينة دون إنذار مسبق، أو تفجير الأجهزة عن بعد، وهناك الكثير من العلوم الخفية قوامها الإلكترون وما دونه التي يمكن أن تكشفها معركة طوفان الأقصى مثلما كشفت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م) من أسلحة حديثة قوامها الحديد، وكشفتها الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) من أسلحة قوامها الذرَّة.
السايبر لغةً
ولكن ما هو موقف الشرع  الإسلامي من عملية القرصنة الإلكترونية واستخدامات العلوم الإلكترونية الحديثة في محاربة الخصم أو ابتزازه؟
هذه الأسئلة وغيرها وجدت مظاهرها ومصاديقها في كتيب “شريعة السايبر” للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، الصادر حديثا (2024م) في 48 صفحة عن بيت العلم للنابهين في بيروت متضمنا (75) حكماً تليها (32) تعليقة للفقيه الفقيد آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة للناشر الأستاذ عبد الحسن دهيني تلتها مقدمة للمعلِّق، ومهّد الكرباسي لبيان الأحكام بشرح مستفيض جمع بين اللغة والفقه والعلوم الحديث لبيان القرصنة الإلكترونية وعموم استخدامات علم السايبر أو العلوم السيبرانية العابرة للفضاء.
ترى من أين أتت مفردة السايبر؟
الفقيه الكرباسي في التمهيد يشير إلى أنَّ: (السايبر مفردة إنكليزية جاءت بالنحو التالي “Cyber” والتي في الأساس هي الضبط، وقد استخدمت مفردة السبرانية “Cybernetics” بمعنى علم الضبط، وفي الواقع إنها يونانية الأصل، واستخدمت بمعنى القيادة أو التحكم عن بُعد والسيطرة عليها، وبدأت استخداماتها سنة 1397هــ “1948” ضمن العلوم الرياضية في مجال القيادة والسيطرة والإتصال في عالم الحيوان فضلاً عن حقل الهندسة الآلية، ثم استدرجت في الجريمة السيبرانية “Cybercrime”، كما وظهرت بعد ذلك مقولة “هجوم عبر الفضاء الآلي” بهدف السيطرة على مواقع إلكترونية أو بُنى محمية آلياً لتعطيلها أو تدميرها أو الإضرار بها، فجرى بشكل عام بمعنى الهجمات السيبرانية “Cyber- attack”).
ولأن لغة القرآن الكريم قاعها عميق الغور، فإن المحقق الكرباسي يرى: (إنَّ اللغة العربية يمكن أن تستوعب – مصطلح السايبر- وذلك بالرجوع إلى الأصل الثلاثي والذي يمكن إرجاعه إلى حروف ثلاثة أساس في بنية المفردة وهي السين والباء والراء، وأما الألف والياء فهما معبِّرتان عن الحركتين الفتحة والكسرة في اللغات الأجنبية، فالمفردة العربية السِبْر بكسر السين وسكون الباء والتي تُجمع على السُبْرة بضم السين، والسُبرة والتي تعني العداوة، بل وتُطلق على طائر من الجوارح طويل الجناحين أعظم من الباشق، وكما وتطلق المفردة السِبار بالكسر على نوع من السباع الأفريقية تشبه الضباع).
ويواصل المحقق الكرباسي في استكناه مفردة السايبر وسبر معناها مضيفاً: (والسَبْر بفتح السين وسكون الباء هو معرفة الشيء وعمقه وغوره وإدراك خفاياه أو تجربته واختباره)، وعليه يؤكد: (فمن الملاحظ أن مفهوم الهجوم العدائي هو الذي ركّزت عليه المفردة العربية مضافاً إلى تسمية الطائر الهجومي عليه بقرب المعنى المصطلح عليه في المجال الأمني والهجوم العدائي).
وبناءً على هذه الرؤية اللغوية يفيدنا المحقق الكرباسي: (ومما سردناه يمكن أن نجعل من هذه المفردة عربية تناسب استخدامها سواء بالفتح أو بالكسر، فهو الهجمة العدوانية عبر الفضاء).
هدهد لبنان
استعار حزب الله في لبنان أثناء معركة طوفان الأقصى من النبي سليمان عليه السلام طائر الهدهد الذي كان ينقل إليه أخبار أقاصي الأرض: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) النمل: 20- 22، فكان هدهد حزب الله وهي “طائرة مسيَّرة صغيرة” ينقل إليه بالصور الدقيقة أخبار داخل محيط فلسطين الكبرى من مراكز حساسة تحت إدارة الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية، مستفيدا من تقنية حرب السايبر في تعطيل أجهزة الرادار والتجول بحرية فوق الأماكن الحساسة وتصويرها بدقة متناهية.
ولأن حرب السايبر سجال، فإن إسرائيل هي الأخرى استخدمت تقنية السايبر في اغتيال شخصيات فلسطينية ولبنانية وإيرانية، ومن ذلك تفجير هواتف البيجر في لبنان يوم الثلاثاء 17/9/2024م، ولم تكن طهران ببعيدة عن تقنية السايبر فقد استخدمتها في رد فعلها عند هجومها الصاروخي على المنشئات الإسرائيلية يوم 2/10/2024م ثأراً لاغتيال الزعيم الفلسطيني إسماعيل هنية في طهران فجر 31/7/2024م وقادة حزب الله في بيروت في 27/9/2024م، حيث جمّدت سيبرانيا قبل إطلاق صواريخها عمل الكثير من أجهزة الرادارت الإسرائيلية والقبة الحديدية.
إذن ستبقى معركة طوفان الأقصى من أصدق المصاديق على الحرب السيبرانية التي يناقش الفقيه الكرباسي أحكامها في “شريعة السايبر” من حيث الحلِّية والحرمة وما يجوز وما لا يجوز بخاصة وإنَّ الشرع الإسلامي بعيد المدى متين القوى في قواعده الفقهية يستقبل كل جديد ويستوعبه ويقدم له حلوله، فهو فقه منفتح في تشريعاته وأحكامه.
بين الحلِّية والحرمة
ولما كانت حرب السايبر أو القرصنة الإلكترونية قائمة على التجسس على حزمة الأسرار المودعة في الأجهزة شخصية كانت أو مؤسساتية أو حكومية، فإن المتبادر هو الحرمة لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الحجرات: 12، وتدخل القرصنة الإلكترونية في باب الجريمة الآلية كما يشدد الفقيه الكرباسي ويفيدنا: (المعلومات الخاصة وأسرار الناس لها حُرمة، لا يجوز هتك حرمة الناس والمؤسسات، تجارية كانت أو علمية إجتماعية أو ثقافية، وما يُستخدم عبر السايبر فهو محرَّم بلا شك ولا شبهة)، وتدخل العملية في الوضع الطبيعي تحت طائلة “كبائر المحرمات” ويعتبر الجاني بغير وجه حق من المفسدين في الأرض ذلك: (إنَّ كلَّ من يعمل أو يستخدم في هذه الحرب الآلية في الجانب غير الشرعي يُعد من المفسدين في الأرض، فيجري عليه حدِّ المفسدين في الأرض)
ولكن صفة الحرمة على مستوى الصالح العام تنتفي عند الدفاع، ولذلك: (إذا قام العدو باستخدام وسيلة السايبر، القسم المحرَّم منه، جاز ردَّه بنفس النوعية، إذا انحصر الدفاع عن الحق بها، ولا يجوز استخدامها ابتداءً)، بل وتدخل المسألة في باب الوجوب ولزوم التطوير إذ: (من الواجب على الدولة الإسلامية في ظل نظام الحروب المتجددة والمتطورة القيام بما يجب القيام به من حيث تطوير الوسائل الكفيلة لمقارعة الآخرين من الأعداء والدفاع عن الأرض الإسلامية وثرواتها، وهكذا بالنسبة إلى الشعوب التي تعيش في ظل الحكم الإسلامي، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين)، وذلك عملاً بما نصَّ عليه القرآن الكريم: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) الأنفال: 60، ومن هذا المنظار: (يجب أن لا يتقاعس المسؤولون في الدول الإسلامية من تحديث الأجهزة المرتبطة بالخدمة التي يقدمها نظام السايبرية وتطويرها في ظل وقف الحرب)، كما: (لا يجوز التخلِّي عن أية فرصة لامتلاك القوة العسكرية بأي شكل من أشكالها ومنها الخدمة السايبرية، بل المطلوب فقط عدم استخدامها في ظل المعاهدات)، ولاشك أن: (إفشال المخططات السيبرانية للعدو واجب شرعي ولا يمكن السكوت عنه، سواء بعد الهجمة أو قبلها).
 وتنتفي في الحرب صفة التجسس المحرَّم حيث: (يُستثنى من حرمة التجسس فيما إذا كانت هناك حرب قائمة بين الحق والباطل بمصافِّ الدول فإنه جائز، بل يجب إن كان الطريق منحصراً به) ثم إنَّ: “تخصيص وتحديد المورد يقع على الحاكم الشرعي” كما يعقب المعلق الفقيه الغديري، ويضيف الفقيه الكرباسي: (إذا احتملت السلطة الشرعية بأنَّ جهة ما تعمل لصالح العدو، جاز لها الدخول على حسابها، بعد الإذن من حاكم الشرع بشكل خاص أو عام)، ويُستثنى أثناء الحرب: (ضرب السدود والبُنى التحتيَّة وما ينتفع به الناس بما أنها في الأصل محرَّمة فالأمر بالنسبة إلى استخدام خدمة السايبر هو الآخر لا يجوز)، ومن ذلك: (إنَّ تدمير أو تعطيل المرافق الحيوية كالطاقة والمياه والإتصالات والمواصلات المدنية والبُنى التحتانية لا يجوز في أي حرب سايبرية، ولكن: (إذا أصبح الشعب مشاركاً مع دولته في العدوان، عندها حكمه لا يختلف مع الدولة، مع مراعاة سلامة النساء والأطفال والشيوخ والعَجَزة وما إلى ذلك ممن تقدَّم الحديث عنهم).
وحيث أنَّ أبواب الشريعة غير مغلقة بأقفال الجمود والتوقف، فإن الفقيه الكرباسي في “شريعة السايبر” وفي غيره من الشرائع في ألف عنوان في أبواب الشريعة، هو مثال السبّاقين إلى فتح الباب أما الطارق الطارئ من كل مفهوم جديد وعلم مستحدث راشداً ومرشداً.
الرأي الآخر للدراسات- لندن