الزيارة المفاجئة التي قام بها أحمد الشرع، رئيس الحكومة السورية الانتقالية، إلى إسطنبول، لم تكن مجرد جولة مجاملة أو لقاء بروتوكولي، بل بدت أقرب إلى استدعاءٍ عاجل لتسلُّم التعليمات.
ففي مدينة لم تعد تمثّل مجرد ثقلٍ إقليمي، بل باتت ممرًا جيوسياسيًا للرسائل الأميركية، ومحورًا لتشكيل الخارطة السورية الجديدة، كان الحضور أشبه بجلوس على طاولة مغلقة، تُعاد فيها صياغة التفاهمات الكبرى.
وما بين أسطر اللقاء، قد تتوالى تحرّكات أكثر عمقًا، قد تبدأ بحوارات مباشرة أو غير مباشرة بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، بإشراف أميركي غير مُعلن، لكنه حاضر بقوة في خلفية المشهد.
ولا يُستبعَد – في ضوء هذه الديناميكية الجديدة – أن تفتح تركيا الباب للتخلي عن بعض المناطق التي احتلتها سابقًا، مثل عفرين وكري سبي وسري كانيه، في إطار صفقة أوسع تتعلّق بإعادة توزيع النفوذ الإقليمي، خصوصًا إذا جاء هذا الطلب بضمانة أميركية صريحة.
ثمة مؤشرات تقول إن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد يكون استلم هذه الرسائل من وزير خارجية أمريكا ماركو روبيو، ضمن قائمة من المطالب الغربية من الحكومة السورية الانتقالية، التي تشكّل – في جوهرها – خريطة ما بعد الحرب، وليس فقط ما بعد النظام.
وهنا، لسنا بصدد الحديث عمّا قيل في الإعلام عن لقاء هاكان فيدان والسيناتور ماركو روبيو في واشنطن، بتاريخ 25 مارس/آذار 2025، حيث تناقلت الوكالات عناوين معتادة: “قضايا أمنية وتجارية”، “تعزيز الشراكة الاقتصادية”، “التعاون في الصناعات الدفاعية”، و”التطورات في أوكرانيا”.
ولا نتوقف عند ما جاء بعد الاجتماع، حين أعرب روبيو عن “قلقه” إزاء الاعتقالات والاحتجاجات في تركيا، في مشهد دبلوماسي مكرّر لا يضيف جديدًا إلى لعبة التصريحات.
ما يهمنا هنا… هو ما لم يُقال.
ما جرى خلف الأبواب المغلقة.
الرسائل غير المكتوبة، التي لا تُدوَّن في المحاضر الرسمية، لكنها تُرسم على خرائط النفوذ وخطوط التقاطع
في سوريا والمنطقة.
فاللقاء كان صعبًا ومحمّلًا بتباينات حادة، خصوصًا حين طُرحت الملفات الشائكة:
الوجود التركي في شمال سوريا، مصير قوات قسد، الخطوط الحمراء حول أمن إسرائيل، وحدود العلاقة مع المعارضة السورية المسلحة.
ووفقًا لمصادر مطّلعة، فإن ماركو روبيو لم يقدّم لائحة مطالب بقدر ما أعاد التأكيد على أن الدعم الأميركي في بعض الملفات رهنٌ بمدى التزام أنقرة بتقديم تنازلات “حساسة“، بعضها يتعلق بتخفيف قبضتها على الفصائل الجهادية في الشمال، وأخرى تتصل بمستقبل المناطق المحتلة كعفرين وكري سبي وسري كانيه.
وبين كل هذه الخطوط، مرّ شرط خافت، لكنه جوهري:
إعادة هندسة التوازن السوري، بما يشمل خروجًا تدريجيًا تركيًا، مقابل دور محوري لقوات قسد والإدارة الذاتية، بصيغة ترضي الأميركي وتمنح تركيا مخرجًا يحفظ ماء الوجه، دون أن يُشعل النار في الأطراف.
فاللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان – أو بالأصح اللقاء الذي فُرض عليه أن يتم – يبدو أنه جاء عبر تنسيق مباشر مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، والذي بات يُنظر إليه كـ “الناقل الرسمي” لإملاءات واشنطن في الشرق الأوسط، حين يتعذّر على الإدارة الأميركية أن تظهر مباشرة في الصورة.
الرسائل التي يُرجَّح أن أحمد الشرع تلقّاها خلال هذا اللقاء كانت واضحة في مضمونها، وإن تم تغليفها بالدبلوماسية المعتادة.
وكانت قد سُلّمت سابقا قائمة المطالب الأميركية رسميًا إلى وزير خارجيته، أسعد الشيباني، من قبل ناتاشا فرانشيسكي، نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون بلاد الشام وسوريا، وذلك خلال اجتماع خاص عُقد على هامش مؤتمر المانحين لسوريا في بروكسل، بتاريخ 18 مارس/آذار،
وقد تضمّنت الرسالتان – العلنية والمضمَرة – مجموعة من المطالب الواضحة، كان أبرزها:
- ضمان الأمن الإسرائيلي من أي تهديد محتمل يصدر عن الأراضي السورية، تحديدًا من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة، سواء كانت تحت راية “الجيش الوطني” أو جماعات أخرى عابرة للحدود.
- العمل التدريجي على فتح قنوات التطبيع مع إسرائيل، كأحد الشروط الأساسية التي ترتبط بانسحاب إسرائيل من الجنوب السوري، أو بتخفيف مستوى تدخلها العسكري في المشهد السوري.
فالتطبيع، بحسب الرؤية الأميركية، لم يعد خيارًا جغرافيًا فقط، بل جزءًا من مشروع إعادة هندسة المنطقة، يبدأ من خرائط السلام وينتهي بتوزيع النفوذ.
- أولاً: استنكار المجازر الجارية في الساحل السوري، والتي لم تعد تُحتمل أمام الرأي العام الغربي، لم يعد من المقبول أن تلتزم الحكومة الانتقالية الصمت، في وقت تتصاعد فيه عمليات الإبادة والتطهير الطائفي، تحت أنظار القوى التي تدّعي تمثيل الثورة.
- ثانيًا: إشراك مكونات سوريا، والشعب الكوردي في العملية السياسية، لا كشريك رمزي، بل كفاعل دستوري ومكوّن أصيل من سوريا القادمة. والإصرار على تدوين هذا التمثيل في النص الدستوري، لا تركه لمزاج التسويات اللحظية، هو جزء من مشروع إعادة التوازن إلى الخارطة السياسية السورية.
- ثالثًا: قبول بقاء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كقوة ضامنة للأمن في منطقة الإدارة الذاتية، بما ينسجم مع التحالف الاستراتيجي الذي تربطها بالقوات الأميركية، وبما يتوافق مع المصالح الحيوية لواشنطن في سوريا وشمالها الشرقي.
- التحذير الصريح من تسلّل المقاتلين الأجانب إلى مفاصل السلطة الجديدة، والتأكيد على عدم تولي أيّ من هذه العناصر لمناصب قيادية داخل الإدارة الحاكمة في سوريا، سواء بصورة مباشرة أو عبر واجهات محلية.
- خامسًا: ملف القواعد التركية ليس على طاولة التفاوض، فأنقرة لن تنتظر اتفاقيات رسمية لتمدد حضورها في الشمال السوري. البناء العسكري التركي ماضٍ دون إذن، ودون الحاجة لهذه الزيارة أصلًا. من يوقّع ليس شرطًا أن يكون صاحب سيادة، بل مجرد واجهة تُمنَح لتُوقّع.
ووراء كل هذه العناوين، تلوح الإشارة الأخطر، أن قوى دولية نافذة، أميركية وأوروبية، بدأت تدفع بشكل صريح نحو تبنّي النظام الفيدرالي اللامركزي في سوريا، ليس كخيار مطروح على الطاولة، بل كصيغة شبه حتمية لتفكيك العقد السوري، وإعادة تشكيل الدولة بما يتلاءم مع واقع التعدد القومي والطائفي، ويضمن مصالح اللاعبين الكبار في المنطقة.
ورغم كل ما يُسوَّق عن شرعية الحكومة الانتقالية، وعن رمزية أحمد الشرع في “سوريا الجديدة”، تبقى الحقيقة شبه المؤكدة أن هذه الحكومة آنية، عابرة، ووليدة ظرف سياسي مؤقت.
هي حكومة بصلاحية محدودة، مرتبطة بعمر المصالح الأميركية والإسرائيلية في الملف السوري قبل التركية، لا بعمر الحلم السوري ذاته.
فبمجرد أن تنتهي أدوات الضغط، أو تتغير الحسابات، أو تُبرم الصفقة التالية في دهاليز السياسة الدولية، ستذوب هذه الحكومة كما ذابت حكومات كثيرة قبلها.
إنها حكومة لا تملك الأرض، بل تمشي على الحبال، ولا تصنع القرار، بل تتلقى النَص.
مكتوبة بخط خفيف على هوامش المرحلة، وقد تُمحى في النسخة القادمة من الخارطة، إذا ما تغيّر العنوان.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
28/3/2025م
** من ألأخر {عندما تدعو أمريكا وبريطانيا مواطنيها على الخروج فورا من سوريا فهذا يعني أن فلم نتنياهو لم يكتمل بعد في سوريا ، لذا أسرع بطله الجولاني للقاء ولي نعمته أردوغان خاصة بعد الرد الاسرائيلي العنيف على تصريحاته (أن طاغية تركيا أخر من يحق أن يعض بالقيم الإنسانية والديمقراطية) فما بالكم أن نتنياهو إن هدد فعل ومن دون رحمة ، سلام ؟