حين وقفت على حافة مقبرتي وصافحت عظامي – د. محمود عباس

 

تأملات في الزمن والموت ومأساة الوعي الإنساني.

لا شيء يُجبر الإنسان على النظر في عيون الفناء، كما تفعل لحظة نادرة نقف فيها على تخوم الذات، لا لنحدّق إلى الغد الذي لا نعرفه، بل لننقّب فيما تبقى من الأمس الذي لم نفهمه.

لحظة صمت داخلي، تتكثّف فيها كل تجاربنا، وتتحوّل فيها الحياة من سلسلة أيام إلى سؤال واحد:

ماذا كنّا؟ وماذا تبقّى منا؟

منذ أيام، وقفت على حافة مقبرتي:

لا، لم يكن الأمر مجازًا، بل شعورًا حقيقيًا، وجوديًا، نفضتُ فيه عن ذاتي جسدي اللحظي، ورأيتني من علٍ، عظامًا لا تزال دافئة بما مضى، وبقايا (محمود) يسأل عن المعنى.

هل نبدأ بالموت منذ اللحظة التي نعيين فيها الزمن؟ أم أن الوعي بذاته هو الفقد الأول؟

كما كتب باسكال:

“كل مآسي الإنسان تبدأ من عجزه عن الجلوس وحيدًا في غرفة”.

لكنني جلست وحيدًا، لا في غرفة، بل على حافة مقبرتي، وكنتُ أكثر من عظم، كنت فكرة، وماضٍيا، وخوفًا، وأملًا لا أعرف له وجهًا.

هناك، فهمت أن الزمن ليس تتابعًا، بل حيلة الوعي ليقنع نفسه بالثبات، وأننا لا نموت فقط حين نُدفن، بل نموت مرات، كلما هدمنا قناعة، أو فقدنا حلمًا، أو تغيّرنا في العمق دون رجعة.

تخيلت عظامي منزوعة من لحمها، هامدة من صخب الحياة التي كانت تسري فيها، وحاولت أن أتذكّر، من كان هذا الذي يُدعى “أنا”؟

فما وجدت إلا ضياعًا بين شعاب التجارب، ووهجًا من الذكريات التي خفت ضوؤها، وفكرةً ملحّة:

أحقًّا كنا؟ أم أن كل شيء مجرد قصة سيحملها التراب في طيّاته دون أن يُدوِّنها؟

الفيلسوف الروماني سيشرون (Cicero) قال ذات مرة:

“التأمل في الموت هو أعظم تمرين على الحرية.”

لأن الموت لا يوقف الحياة فقط، بل يُجبرنا على التفكير في جدواها، وهنا، عند حافة المقبرة، لا تعود الأسئلة مجرد تسلية عقلية، بل صرخة من عظمٍ لا يزال يحتفظ بصدى الصوت الذي كان.

ألم يكن ابن سينا نفسه من قال في “النجاة”:

“إن النفس تتيه إن لم تربط وجودها بما هو أسمى من الحواس.”

لكن، وماذا إن لم نجد ما هو أسمى؟ ماذا لو كانت الحياة بالفعل هي كل ما نملكه، والموت ليس إلا استكمالًا لتيهٍ بدأ بولادتنا، وسينتهي بانطفاء آخر شمعة في وعينا؟

كنت أظن أنني أكتب لأوثّق الحياة، لكنني اليوم أكتب لأحفظ شيئًا من العدم، ذلك الفراغ الذي يُرعبنا، لأننا لا نعرف كيف نعبّر عنه إلا بصمتٍ يشبه الموت.

هيدغر، في تأملاته عن الموت، وصف الإنسان بأنه “الكائن الوحيد الذي يعرف أنه سيموت، ويواصل مع ذلك بناء حياته كما لو أنه خالد.”

وهذا هو التناقض الجوهري في وجودنا، أننا نُحب ما نعلم أنه سيزول، ونسعى لما نعلم أن نهايته تحت التراب.

حين وقفت هناك، على طرف مقبرتي، لم أكن أتأمل فقط ما مضى، كنت أتأمل ما لم يأتِ، وما قد لا يأتي.

فسألت، هل نحن من نكتب أعمارنا، أم أنها تُكتب لنا، سطرًا بعد سطر، ونحن نقرأها ظانّين أننا نؤلفها؟

أفلاطون آمن بأن النفس خالدة، لكنني، في لحظة صدقٍ قاتل، لم أبحث عن الخلود، بل عن الجدوى، عن المعنى الذي يجعل هذا التيه يستحق أن يُروى، ويُعاش، ويُدفن، لا لأنه مجيد، بل لأنه إنساني.

هذه ليست نبرة تشاؤم، كما قد يظن من لم يذق طعم التأمل الحقيقي، بل لحظة صفاء مع الذات، لحظة تصافح فيها الحضور مع الغياب، وصمتت الكلمات احترامًا لعظمة الصمت.

نعم، لم أنشر تلك الفكرة سابقًا،

خشيت أن يُقال عني “متشائم”. لكنني اليوم، أراها أكثر شجاعة من أن تُكتم، لأننا إن لم نعترف بهشاشتنا، لن نعرف يومًا كيف نمنح للحياة قيمتها.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

5/4/2025م

One Comment on “حين وقفت على حافة مقبرتي وصافحت عظامي – د. محمود عباس”

  1. هذه التداعيات الفكرية هي بلا شك شخصية تخصك وحدك، وليس من الضروري ان يتخذها غيرك ناموسا وقدوة لنفسه، وانت في نهاية المطاف حر تماما بما تفكر به وترى نفسك فيه. لكن الأمر يختلف عندما تتحدث بأسلوب الجمع، وتقحم الآخرين بما تشعر وتفكر انت به، وهذا واضح في عبارتك (لأننا ان لم نشعر بهشاشتنا، لن نعرف يوما كيف نمنح للحياة قيمتها)، فهل كل من يرى الجمال في الحياة، كما يقول ناظم حكمت “الحياة جميلة يا صاحبي”، يجب عليه ان يشعر بهشاشته كإنسان وجد على الأرض؟

اترك رداً على قاسم كركوكي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *