صفحة تأريخية مهمة أنطوت بعد إنهيار الأتحاد السوفياتي الدولة ذات النظام الشمولي الأقوى في التأريخ ، ثم تبعتها سلسلة إنهيارات لأنظمة شمولية في معظم بقاع العالم وكان أخرها نظام حزب البعث في سوريا ، عملية إنهيار الأنظمة الشمولية أصبحت حتمية تأريخية في هذه المرحلة الحساسة تحديداً ، بات وجوباً على جميع الأنظمة الشمولية المتبقية في العالم الأستعداد للزوال والذهاب إلى مزابل التأريخ طوعاً أو كرهاً ولا تنفع معها الترقيعات والتعديلات ولا تشفع لها حمامات الدم والأعتقالات ، فهذه دولة كوبا سكانها اليوم يفترشون الشوارع يأكلون أوراق الشجر ويتوسلون الطعام يعيشون حياة القرون الوسطى بسبب نظام حكمهم الشمولي وكذلك الحال في كوريا الشمالية وفنزويلا وفي كل مكان فيه نظام شمولي نرى الجوع والتخلف والسجون ممتلئة بالأبرياء ودعاة الحرية يموتون فيها . قد يكون النظام الديمقراطي ليس هو النظام المثالي الذي تحلم به البشرية لكنه هو الأفضل ما توصل إليه العقل البشري على مر الأجيال ، فكلنا اليوم ننتقد ظواهر كثيرة من النظام الديمقراطي دون القدرة على طرح البديل الأفضل . فلقد تمت تجربة الأنظمة الملكية العائلية والعسكرتارية والحزبية والدكتاتورية والدينية والعشائرية وغيرها ، كلها تركت وراءها عيوب لا يمكن إصلاحها ، وكلها كانت تسعى لخلق رموز بشرية مقدسة ، وكلها جعلت من الغالبية العظمى من سكان المجتمع تعيش تحت خط الفقر ، فمن يراهن على إعادة تجربة الأنظمة الميتة فهو لا يدرك معنى الفشل والنجاح . الأنظمة الشمولية التي نتحدث عنها هنا هي الأنظمة التي تخضع لسيطرة حكم جهة واحدة حزبية أو تنظيمية ذات عقيدة راديكالية غير قابلة للتغيير ، فهي أنظمة نشأت في ظروف محددة ولها صلاحية بقاء محددة تتآكل مع مرور الزمن ولا يمكن أن تتجدد ، فأي رهان عليها يعني ضمانة لبقاء واستمرار شلالات الدم لأن ديمومة هذه الأنظمة يتطلب ( التزبير) ، هذه المفردة ( التزبير ) يستخدمها الفلاح أو البستاني العراقي في الإعتناء بشجرة النخيل ، أستخدمها صدام حسين في أحد لقاءاته الحزبية عندما قال أن صيانة نظام الحكم مثل مراعاة شجرة النخيل تستوجب التزبير ، فشجرة النخيل كل سنة تحتاج إلى التزبير ويقصد قطع الزوائد الضارة من الشجرة لتنمو بسرعة ، وهكذا شبهه صدام نظام الحكم الشمولي بالحاجة إلى قطع الرؤوس التي لا توالي نظام الحكم ليبقى النظام ينبض بالحيوية والحياة . رغم بشاعة ووحشية التوصيف والتشبيه الذي ذكره صدام حسين إلا أنه كان محقاً وصادقاً في تقريب الصورة في كيفية الحفاظ على نظام الحكم الشمولي ، وهذا ما رأيناه في جميع الأنظمة الشمولية في العالم ولا نستطيع أن نستثني منهم أحدا .
مشكلتنا أن بعض هذه الأنظمة الشمولية ترفض المغادرة أو الزوال إلا بالقوة لتترك وراءها ترثة ثقيلة من الأنقاض الفكرية والمادية لا يمكن تنظيفها إلا بعد عشرات السنين ، أي إنها تمحي كل مقومات الوجود بل حتى عقول الناس تتركها مشوهة لا تقوى على شق طريقها في الحياة . كلنا نتذكر الشعار الذي كتُب على جدران بنايات العاصمة بغداد والمحافظات بعد حرب 1991 م ( لا حياة بلا شمس ولا عراق بدون صدام حسين ) نعم هكذا يعتقد رموز الأنظمة الشمولية مع زوالهم يجب أن تزال الحياة عن الأرض وعن الناس . الحقيقة أنا استغرب عندما أقرأ وأسمع بأن الشيطان يتم وصفه بأنه مثال للسوء ، فعندما أقارن ما يفعله قادة الأنظمة الشمولية وأتباعهم بالناس أجد أن الشيطان الموصوف في الكتب المقدسة هو كائن طاهر لا يصل إلى معشار مستوى القذارة التي وصلتها تلك الأنظمة مع شعوبها ، ورغم عفونتهم تجد لهم الأنصار والعشاق والمريدين الذين يضحون بالغالي والنفيس من أجلهم ، إلا أنهم دوماً يجهلون بأن عجلة التأريخ تسير ولا تلتفت إلى الوراء ولا إلى ما يفعله قادة الأنظمة الشمولية ولا تبالي إلى الدواب التي تتبعهم فمسيرة الحياة لم توقفها من قبل جبابرة الأرض ولن توقفها الأن أو غداً أموات يحسبون أنفسهم أحياء .