في كل مرحلة تمر بها الشعوب من مخاض التحوّل، يظهر امتحان جوهري يكشف معدنها الحقيقي، موقفها من الحقيقة، ليست الحقيقة ترفًا فكريًا أو مجرد رأي يُقال في المساحات الحرة، بل هي، كما قال جورج أورويل، مرآة تؤلم من يرفض رؤيتها، وتصبح لعنةً على من يجرؤ على حملها في زمن التزييف.
اليوم، حين نرصد تصاعد موجات العداء العنيف والمشحون بالبذاءة ضد الشعب الكوردي، ليس فقط في الخطاب السياسي، بل في أبسط التعليقات و”التغريدات”، ندرك أننا لسنا أمام خلاف سياسي، بل أمام حالة نكران جماعي للحقيقة، الحقيقة التي يمثلها الوجود الكوردي، بوصفه شعبًا حيًا، عانى قرونًا من التهميش، ولا يزال يناضل من أجل الاعتراف بكرامته وحقوقه وهويته.
كلما اقترب الكورد من التأثير في المشهد الإقليمي والدولي، وكلما بدأ حضورهم يفرض نفسه على طاولات القرار، ارتفعت أصوات الشتيمة، واشتدت وتيرة التحريض، من العبارات العنصرية إلى الهجمات المنهجية عبر الإعلام والمواقع، تشتعل حرب لا تستهدف “مشروعًا سياسيًا” بقدر ما تستهدف الحق في الوجود نفسه.
لأن القضية الكوردية، ببساطة، تُحرج الجميع، تُحرج القوميين الذين بنوا أوطانهم على نفي الآخر، وتُربك الإسلاميين الذين يريدون أمة موحّدة تحت راية واحدة تذيب كل قومية، وتخيف الطغاة لأنها تذكّرهم بأن المظلوم قادر على البقاء، بل وعلى الصعود من تحت الركام.
والأخطر، أن هذا العداء لا يأتي فقط من الأنظمة، بل من مجتمعات بأكملها تم شحنها عقائديًا ضد الكورد، لا لذنب سوى أنهم يطالبون بحقّهم في تقرير المصير، في لغتهم، في تاريخهم، في ثقافتهم، في أن يُنظر إليهم كبشر لا كأرقام أو “مشكلة أمنية”.
لقد وصلت هذه الموجة المنحطة إلى ذروتها مع صعود قوى التطرف الديني، التي لم تكتف بتشويه الإسلام، بل احتكرت الحديث باسم “الثورة”، وحوّلت سوريا إلى ساحة مفتوحة للشتائم والفتاوى السياسية.
ومع دخول هذه التنظيمات على خط السلطة، وبتسهيل مباشر من قوة إقليمية، تحوّلت القضية الكوردية إلى مادة للشيطنة الممنهجة، لا تختلف في جوهرها عما كان يفعله البعث، وإنما فقط بأدوات جديدة وشعارات أكثر دموية.
إن رفض الاعتراف بالكورد ليس موقفًا سياسيًا فحسب، بل فشل أخلاقي وفكري، لأن الحقيقة الكوردية، كما كل حقيقة مسلوبة، تعرّي هشاشة من يرفض رؤيتها، وتُجبره على مواجهة تاريخه القائم على التبرير والخوف والسطو.
إن الشتائم، والتهجم، والتشكيك، ليست دليل قوة، بل محاولة بدائية لإسكات الحقيقة حين تعجز عن مجابهتها. وهذا ما يفعله الكثيرون اليوم مع الصوت الكوردي، حين يصرخ بالحقيقة، نحن شعبٌ حي، ولسنا هامشًا على دفتر قومياتكم، ولا متطفلين على جغرافيا دولكم، ولا عُمالًا فائضين في سوق نخاستكم السياسية.
لقد قالها أورويل منذ عقود، وما تزال تنطبق علينا اليوم:
“كلما ابتعدت المجتمعات عن الحقيقة، زادت كراهيتها لأولئك الذين ينطقون بها.”
فلا عجب أن يكون الكورد هدفًا دائمًا للكراهية، لأنهم، في قلب هذا الخراب، لا يزالون يجرؤون على قولها.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
22/5/2025