: تخفيف العقوبات الأمريكية على سوريا بين آفاق التعافي الاقتصادي والتحديات المستقبلية – موسى بصراوي

في تطور غير مسبوق يعيد تشكيل ملامح المشهد الجيوسياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية في 23 مايو 2025 عن تخفيف كبير للعقوبات المفروضة على سوريا، عبر إصدار “الترخيص العام رقم 25” (GL 25) الذي يعلّق تطبيق العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر” لمدة 180 يوماً قابلة للتجديد. هذه الخطوة تمثل تحولاً جذرياً في السياسة الأمريكية تجاه دمشق وتفتح الباب أمام احتمالات متعددة تبدأ ببوادر انتعاش اقتصادي، لكنها لا تنتهي عند التحديات السياسية والأمنية التي سترافق هذا الانفتاح الحذر.
العقوبات وسنوات العزلة: مسار تصعيدي طويل
لنفهم أهمية هذا القرار لا بد من العودة إلى السياق التاريخي. فمنذ إدراج سوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1979، اتخذت العقوبات الأمريكية طابعاً تصاعدياً بلغ ذروته بعد عام 2011، مع اندلاع الثورة السورية. ومع تبني “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين” عام 2019، فرضت واشنطن عزلة شبه تامة على الاقتصاد السوري، امتدت إلى الجهات الدولية والإقليمية، ما جعل أي تعامل مالي أو تجاري مع دمشق محفوفاً بالمخاطر القانونية والدبلوماسية.
أبعاد القرار الأمريكي: إعادة التموضع الاستراتيجي
القرار الأخير لم يكن فقط بُعداً اقتصادياً، بل هو قبل كل شيء انعكاس لتحول استراتيجي في التفكير الأمريكي حيال سوريا. ففي حين لا يزال الخطاب الأمريكي يحتفظ بنبرة مشروطة ” لا دعم لمن يوفر ملاذاً آمناً للإرهاب، ولا تساهل مع انتهاك حقوق الأقليات” فإن البُعد الحقيقي للتحول يكمن في مسعى واشنطن لإعادة تموضعها في الملف السوري، بعيداً عن فراغ تركته لصالح موسكو وطهران.
ويبدو أن إدارة الرئيس ترامب في ولايته الثانية تسعى إلى خلق “توازن نفوذ جديد” في سوريا عبر تمكين الحلفاء الإقليميين من الدخول في عمليات إعادة الإعمار وإعادة تأهيل الاقتصاد السوري، دون السماح لأي من القوى المناوئة خاصة إيران وروسيا بجني ثمار هذا الانفتاح.
الاقتصاد السوري: من الانهيار إلى فرص الانتعاش
البيانات الصادرة عن البنك الدولي تؤكد حجم التدهور الحاد في الاقتصاد السوري بسبب العقوبات، حيث انخفضت صادرات سوريا من 18.4 مليار دولار في 2010 إلى أقل من 2 مليار دولار في 2021، مع انهيار شبه كامل في الإنتاج النفطي حيث انخفض الانتاج اليومي من قرابة 400,000 برميل نفط يومياً قبل 2011 إلى 30,000 برميل يومياً في السنوات الأخيرة بسبب الحرب وتدمير البنية التحتية.
القرار الأمريكي يفتح لأول مرة منذ سنوات نوافذ تمويل واستثمار حقيقية، خصوصاً في ثلاثة قطاعات محورية:
1- النفط والغاز: الترخيص الجديد يسمح بإعادة تأهيل البنية التحتية وجذب استثمارات جديدة لتطوير الحقول النفطية والغازية، ما يمهّد لعودة تدريجية للإنتاج والتصدير.
2 – المصارف والخدمات المالية: استعادة ربط النظام المصرفي السوري بالنظام المالي العالمي SWIFT وفتح حسابات مراسلة تعني عودة سوريا إلى الدورة المالية العالمية.
3- إعادة الإعمار: فتح الباب أمام شركات البناء والمقاولات العالمية للدخول إلى السوق السوري سيدفع باتجاه مشاريع كبرى، بشرط توافر الضمانات الأمنية والشفافية.
السعودية وتركيا على الخط: شراكات ما بعد العقوبات
إعلان السعودية عن استعدادها لتسديد ديون سوريا للبنك الدولي البالغة حوالي 15 مليون دولار ليس مجرد بادرة تضامن، بل هو خطوة محسوبة نحو تعزيز النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب. وبالمثل فإن تركيا التي تربطها مصالح معقدة في الشمال السوري، بدأت باستكشاف فرص التعاون في ملف موارد النفط والغاز السورية لإعادة الإعمار، وهو ما قد يؤدي إلى شراكات ثلاثية (دمشق – أنقرة – الأكراد) تتجاوز حسابات الحرب التقليدية خاصة بعد الاتفاق الذي تم التوصل إليه في مارس 2025 بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال مظلوم عبدي، وكذلك بعد زيارة الشرع الاخيرة الى تركيا ولقائه بالرئيس أردوغان.
الحكومة السورية الجديدة: اختبار الشرعية والإصلاح
تولي أحمد الشرع رئاسة الجمهورية السورية ترافق مع خطاب تصالحي وزيارات دبلوماسية محسوبة ومحاولة لرسم صورة “سوريا جديدة”. لكن هذا الطموح سيصطدم بجملة تحديات، أبرزها اختبار حماية الأقليات، ملف المقاتلين الأجانب، تقليص النفوذ الروسي والتطبيع مع اسرائيل.
السيناريوهات المستقبلية: بين الانفتاح المشروط والانتكاسة المحتملة
بحسب تحليل الواقع، يمكننا تصور ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار العلاقات الأمريكية-السورية خلال الفترة المقبلة:
1- سيناريو التعاون المتزايد: إذا التزمت الحكومة السورية بالشروط الأمريكية، قد تتوسع الإعفاءات وتُمهّد لتطبيع اقتصادي ودبلوماسي واسع.
2- سيناريو التقدم المشروط: استمرار تخفيف العقوبات بشكل تدريجي مع مراقبة أمريكية مستمرة للأوضاع الداخلية في البلاد.
3- سيناريو النكسة: في حال استمرار الانتهاكات أو عودة سوريا للتقارب مع إيران وروسيا، قد تعود العقوبات وربما بأدوات أشد.
ويبدو أن نجاح العلاقات المستقبلية سيعتمد بشكل كبير على قدرة الحكومة السورية الجديدة على إثبات التزامها بالإصلاح السياسي وحماية حقوق الأقليات وإبعاد نفسها عن المحور الروسي-الإيراني.
في المحصلة، القرار الأمريكي الأخير لا يعني نهاية العقوبات، بل بداية اختبار. هو بمثابة “هدنة اقتصادية مشروطة” قد تتيح لسوريا التقاط أنفاسها، لكنها لا تمنحها شيكاً على بياض. فالمطلوب من دمشق هو أكثر من خطاب تصالحي، المطلوب هو إعادة صياغة العقد السياسي والاجتماعي الداخلي، والابتعاد عن المحاور الإقليمية المتطرفة، والانخراط الحقيقي في عملية إعادة بناء شاملة تراعي مصالح المواطنين أولاً والشركاء الدوليين ثانياً. وعليه فإن الفرصة اليوم ليست لسوريا فقط، بل للعالم أيضاً ليعيد تعريف علاقته مع بلد عانى طويلاً، لكنه لا يزال يشكل حجر زاوية في معادلات الشرق الأوسط بحكم موقعها الجيوسياسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *