5-7-2018
تعبتر القضية الكوردية احدى ابرز القضايا التي تم تدوالها منذ بداية انحلال الدولة العثمانية ومحاولة القوى العظمى تقسيم تركتها فيما بينهم، وفق الاجندات التي قدمت بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى من قبل فرنسا وبريطانيا كانت المسألة الكوردية تحتل مكانة بارزة ضمن الكثير من المسائل الاخرى، حيث افرز الواقع رؤية غربية متمثلة بتلك الدولتين حول امكانية انشاء كيان كوردي مستقل، لاسيما بعد مؤتمر السلام الذي انعقد في باريس والذي فيه رات الدول المشاركة بامكانية اقامة دولة كوردستان، ولكن تلك المسألة كبعض المسائل الاخرى لم تنجح في تحقيق مساعيها، وذلك لاسباب متعددة ولعل ابرزها ماهية المصالح الدولية لاسيما لكل من بريطانيا وفرنسا في المنطقة، ومن خلال هذا السرد الموجز سيتم الوقوف بشكل اكثر دقة وتفصيلية على اهم الاسباب التي وقفت وراء عدم اقامة دولة كوردية، على الرغم من وصول القضية الكوردية وقتها الى مستويات عالية في التداول الاقليمي والدولي، لاسيما فيما يتعلق بالحقوق القومية، ولقد لعبت الاوضاع العامة وقتها دوراً مهما في ايصال ذلك الصوت، ولكن في الوقت نفسه بقي دور القوى الاقليمية والدولية سلبياً تجاه القضية الكوردية، وبلاشك هناك اسباب عديدة وراء ذلك، فالاتحاد الاوربي والولايات المتحدة الامريكية كل من جانبها اثرت بشكل واخر على سير القضية الكوردية، ولايمكن اخفاء ذلك حتى في وقتنا الحاضر لاسيما بعد دخول الكورد ضمن منظومة التحالف الدولي في حربها ضد احدى اشرس الجماعات الاسلامية ” تنظيم الدولة داعش” في كل من سوريا والعراق، فقد اصبح الكورد في الحرب السورية الدائرة حالياً ورقة ضغط كبيرة على المسارات السياسية وذلك بتحالفهم مع الولايات المتحدة التي تقود بدورها التحالف الدولي ضد الارهاب، في حين نرى المساعي التركية والايرانية الجاهدة في ابقاء الكورد ضمن دائرة الارهاب في سوريا، هذا التضاد خلق نوعا من الامتعاض الكوردي ولكن في الوقت نفسه يتضح بان الولايات المتحدة لم تزل متمسكة بذلك التحالف، فضلا عن وجود تعاطف روسي حيال الكورد في هذا الشأن لاسيما بعد ان اتضحت معالم توجههم الحقيقي والذي يميل الى النظام السوري الحاكم المدعوم من روسيا، وفي الجانب الاخر حدثت تطورات كبيرة في مسالة الوعي القومي والمطالبة بالحقوق القومية للكورد في كوردستان العراق التي بدورها دخلت في تحالف مباشر مع القوى الدولية لمحاربة الارهاب، ذلك التحالف الذي اعطى للكورد مساحة واسعة للظهور الدولي بحيث اصبحت قضيتهم في العراق تتداول في العديد من المحافل الدولية، ذلك التداول الذي اسفر في النهاية الى قناعة لدى الاوساط السياسية الكوردية بضرورة اجبار بغداد على اتخاذ سياسة واضحة تجاههم، واعطاء حقوقهم الدستورية الامر الذي افضى الى اتخاذ الساسة في كوردستان العراق قراراً باجراء استفتاء للاستقلال، فعلى الرغم من هذا القرار التاريخي المهم للحركة التحررية الكوردية الا ان المواقف الدولية تغيرت تجاههم بحيث لم تقدم لهم الدعم اللازم مما جعلوا من تجميد نتائج الاستفتاء امراً وارداً.
مر الشعب الكوردي كغيره من شعوب المنطقة بمراحل تاريخية عديدة، وتثبت الدراسات التاريخية والاثرية برسوخ قدم الكورد في المنطقة سواء من الناحية الاثنية او الجغرافية، ولقد ترك الكورد خلال العصور التاريخية معالم حضارية واضحة تشهد لهم بامتلاكهم القدرة على البقاء والثبات امام الصعاب، وتعد مرحلة عاصفة الصحراء 1990 الى ما بعد سقوط بغداد وانحلال نظام البعث العراقي 2003 احدى اهم المراحل التاريخية والسياسية للكورد في كوردستان العراق حيث تم تقييد نظام البعث وجيشه وذلك من خلال اقامة منطقة عازلة باشراف دولي، وفي الوقت نفسه دخل الكورد بشكل فعال للمنظومة السياسية الداخلية بتشكيل حكومة كوردية وبرلمان كوردي ومن ثم التوافقات السياسية بين الاحزاب الرئيسية في كوردستان العراق، ومن الناحية الاخرى دخولهم وبشكل قوي في تحديد معالم وملامح السياسة العراقية واستطاعوا من فرض ارادتهم في صياغة العديد من المواد الدستورية الاولية التي تضمن لحد ما حقوقهم داخل الدولة الجديدة بالطبع من خلال دخولهم ضمن اللجان المكلفة باعداد مواد الدستور والتي استمرت لفترة طويلة قبل ان يتم الاعلان عنه، ولكن كل ذلك مرة اخرى اصطدم بواقع المصالح الدولية التي سعت بدورها الى تفعيل الورقة الكوردية للضغط على بغداد وايران من جهة وللحد من التوغل التركي ايضا من جهة اخرى، فمصالح تركيا هددت الى حد ما المصالح الامريكية على الرغم من التحالف الامريكي التركي، كما اصبح التواجد التركي في العراق لاسيما في كوردستان معياراً سلبياً بوجهة نظر الاتحاد الاوربي لتعارضها مع مصالح الاتحاد وكذلك لكون الاتحاد يدرك تماما المساعي التركية لضرب حزب العمال الكوردستاني من خلال هذا التوغل.
من خلال رسم الملامح السياسية عقب فترة سقوط النظام العراقي وبداية التحولات السياسية العراقية والتي سبق وان نوهنا عنها بتشكيل اللجان الدستورية ودور الكورد فيها، اصبح المشهد العراقي شبه واضح المعالم للغرب الاوربي والامريكي من جهة وللدول الاقليمية المجاورة لاسيما ايران وتركيا من جهة اخرى، حيث ان التدخلات الاجنبية في الشؤون العراقية لم يعد مقتصرا على جهة معينة بل تحول العراق ساحة لعب للمصالح الدولية لاسيما لتركيا التي باتت احدى اكبر الدول استثماراً في العراق وبالاخص في كوردستان العراق وباتت تتحكم اقتصاديا في العديد من المواقف السياسية، لكونها تتحكم في الاصل بالممر المهم والرئيسي لانفتاح كوردستان العراق على العالم الخارجي، ولقد سعت تركيا من خلال ذلك لفرض وجودها، وسياستها في الكثير من الاحيان وذلك لاعتبارات خارجية، فتركيا التي تعاني منذ عقود طويلة في مسالة الدخول للاتحاد الاوربي واجهت الامر بطريقة مغايرة وذلك بفتح قنوات اقتصادية وسياسية تعطيها حضوراً مميزا في الشرق الاوسط، مما يعني بالتالي امكانية الضغط على الاتحاد الاوربي لقبولها، ولكن في الوقت نفسه واجهت ضغوطات عديدة من منافسيها في المنطقة سواء ايران، او الولايات المتحدة التي وجهت للعديد من المرات انتقادات واضحة للتوجهات التركية وسياستها في المنطقة، وبلاشك ان تلك السياسة لم تلقِ استحسانا اوربيا ايضاً بل اثر كثيرا على المساعي التركية، ونتيجة هذا الصراع بين الدول الاقليمية والاتحاد الاوربي وامريكا دخل العراق مرحلة من الضياع السياسي استطاع الكورد من الاستفادة من تلك الظروف لبناء انموذج للحكم ضمن حكومة شبه مستقلة.
اصبح التوغل الاقتصادي التركي في كوردستان العراق محل شك للعديد من الاوساط المحلية والاقليمية، ولكنه في الوقت نفسه استطاع من اخراج حكومة الاقليم من العديد من الازمات، وبذلك فان هذا التوغل الاقتصادي منح الكورد فرصة كبيرة للانفتاح على الاسواق العالمية، فتركيا وحدها كانت تحمل تلك السمة الانفتاحية للكورد، لكون جغرافيا سوريا التي تعيش واقعا مأساوياً لايمكنها ان تمنح كوردستان العراق الممر الامن، ولا ايران التي تتحكم بزمام الامور السياسية في العراق وبذلك لم يعد امام الكورد الا تركيا، فعلى الرغم من التنازلات التي قدمها الكورد لتركيا الا انهم استطاعوا من استغلال ذلك لفرض واقع اقتصادي مؤثر، بحيث لم تعد تركيا تستطيع الى حد ما الاستغناء عنه، وهذا بلاشك يعد مكسباً لحكومة اقليم كوردستان، ومفتاحاً مهما للتنمية الاقتصادية لاسيما اذا ادركنا بان تركيا تنعم بموقع استراتيجي على الساحة الدولية سواء في المجال السياسي ام الاقتصادي، ولكن مع ذلك لايمكن انكار الاثار السلبية التي قد تتركها تركيا فيما يخص الواقع السياسي الكوردي الساعي لتحقيق دولة وكيان كوردي مستقل، فتركيا كانت ولم تزل من اشد الدول معارضة لهذا المسعى لادراكها بان استقلال كوردستان العراق يعني بالتالي فتح الممر والمجال مع الجنوب التركي للتحرك ضمن مساعي دولية وسياسية وحتى عسكرية لنيل حقوقها، وبالتالي فان تركيا كانت ولم تزل توجه كامل طاقتها للحد من استقلال كوردستان العراق ولقد شهدت الاحداث الاخيرة بعد الاستفتاء هذا السعي التركي حيث لاول مرة منذ عقود تاريخية نجد تركيا تقدم تنازلات واضحة لغريمتها ايران على حساب وقوف الاخيرة معها ضد المصالح الكوردية.
تتضح معالم الرؤية الدولية للقضية الكوردية وفق معايير المصالح المشتركة فيما بينها من جهة وعلى الوحدة الكوردية من جهة اخرى، فالقضية الكوردية تعيش واقعاً صعباً من خلال جغرافيتها الصعبة، حيث تستفحل الدول القومية في المنطقة بشكل واضح وجلي، وتتحكم تلك الدول بزمام السلطة ضمن جغرافيتها وفي احيان كثيرة تتحكم بمسارات اخرى للاحزاب الكوردية داخل حدود الدول المجاورة لها، وهذا يعني امكانية استغلال التيارات الكوردية من قبل تلك الحكومات القومية وفق مصالحها ومعاييرها واستراتيجياتها الخاصة واجنداتها، فتركيا الدولة القومية التي كانت ولم تزل تتحكم بقوة بزمام الحكم ضمن جغرافيتها تتدخل بشكل واضح ومؤثر في كوردستان العراق، وفي الجانب الاخر العراق نفسه المدعوم من ايران نراه يتحكم بمناطق كثيرة وفق نهجها الخاص، وبالتالي فان القضية الكوردية تعيش واقعاً افتراضياً موحداً، وواقعاً عيانياً مفترقاً، وهنا تبرز اللعبة الاكثر تحكما بالمساعي التركية لبسط نفوذها في المنطقة وهو الصراع التركي الاتحاد الاوربي حيث تشكل الاخيرة معلماً بارزا في تحديد المسارات السياسية التركية، بحيث كان الترك ومازالوا يستغلون ورقة التحكم بالعديد من الممرات الاقتصادية المهمة لكوردستان العراق لتوجيه الرأي العام الاقليمي، في حين لم يزل الاتحاد الاوربي يرى في السياسة التركية منافية لجميع القوانين الدولية والتي تفضي الى عدم اهليتها للدخول في الاتحاد.
فالتوغل التركي في سوريا ومساهمتها الفعالة في ايواء المعارضة السورية ومن ثم اتباعها النهج العسكري لتوثيق مواقفها ورغبتها التوغلية تجعل من مهمة قبول الاتحاد الاوربي لتلك الافعال والاعمال شبه مستحيل، لاسيما بعد ثبوت العديد من الادلة بارتكابها مجاز حقيقية وايوائها لبعض الجماعات الارهابية، ومن ناحية اخرى رفضها القاطع للتعامل مع الاحزاب الكوردية الفعالة والتي تدخل ضمن التحالف الدولي ضد الارهاب، كل هذا جعل من القضية الكوردية تدور في حلقة فارغة ضمن اطارات لم تحدد ملامحها المستقبلية بعد، ومن جهة اخرى فان التعامل الدولي مع الكورد على الرغم من ولولوجهم الى التحالفات الدولية معهم، بات امراً يعقد من ادراك معالم القضية الكوردية المستقبلية، فالكورد رغم كل ما قدموه مازالت قضاياهم يتم التعامل معها وفق سياق محدد وهو الدولة القومية التي يشكل الكورد جزء منها، فالتعامل مع اقليم كوردستان العراق يتم عبر بغداد، ومع الكورد في سوريا وفق المنظومة السورية ناهيك ان ايران وتركيا لايعترفان اصلا بوجود كوردستان، فكل التعاملات تتم عبر انقرة التركية وطهران الايرانية.
لقد ساعد التشتت الكوردي نفسه هذه الدول على الاستقواء عليها، وحصر قضيتهم في الدوائر الداخلية للدول نفسها، وعدم اعتبار القضية الكوردية قضية دولية او قضية قومية تحتاج الى حلول دولية، هذا التشتت له اسباب عديدة، ولعل ابرزها هو التحزب والانقسام في الرؤية الكوردية حيال قضاياه، وعدم وجود قيادة تستطيع ان تتحكم بالكورد وتوجههم الى بر الامان، فكل الاحزاب الكوردية لاتملك مشروعاً قومياً منطقياً وواقعياً يمكنه ان يتماشا مع رؤية اغلب الاحزاب المتحكمة الاخرى، بل ان اختلاف وجهات النظر الكوردية الكوردية ادت في العديد من المرات الى الاقتتال الداخلي فيما بينهم، وهذا ما وسع الشرخ بين الرؤية الكوردية لقضيتهم وبين الرؤية الدولية التي وبحسب مصالحها تريد وتيرة موحدة للرؤية الكوردية كي تقدم الدعم لها، ان التنافس الحاصل بين القوى الحزبية الكوردية اضرت بالقضية الكوردية بدرجة انها لاتستوعب مدى حجم تلك الاضرار، ولم يعد يهمها الا الشعارات القومية التي بدورها لاتنفع ولاتقدم للقضية اية حلول مناسبة، هذا الانقسام الظاهر في الجسد الكوردي لم تجعل الهوية الكوردية في خطر فحسب بل انه بات يهدد مستقبل القضية ومستقبل الجنسية الكوردية في دولها وفي المنطقة باجمعها، بحيث لم يعد التغني بالاسطورة الكوردية التي استطاعت الوقوف بوجه الظلم والارهاب تنفع، لان اساس اية اسطورة حية التوافق والالتحام والتوحد وهذا ما لايوجد في دائرة الساسة الكورد، وبالتالي فان الاسطورة بكل قوتها لاتستطيع ان تخلق واقع سياسي يتمكن فيه الكورد من تشكيل دولة او اقامة كيان مستقل.