عبد الباقي يوســف في ملحمة سِيامَند وخَجـــي-   بقلم: شرين رضا

 

لا يعلم الأنسان كيف يصبح سومرلوجياً، ما لم يكن ملماً بالملحمات التاريخية والإنسانية، واليوم معنا واحدة من أعظم الملحمات التي تناولها التاريخ الكردي: ( سيامند وخجي )

لقد تقمص التاريخ الكثير من الأدوار التي ظهر لنا فيها ببطولات مجدتها الحضارات على مر التاريخ ولكي نصل بعقولنا إلى الوعي الذي يسمح لنا برؤية تلك المصطلحات علينا التعمق أكثر داخل سراديب وخبايا التاريخ بكل لغاته المعترف به.

تُعتبر الرواية التي أمامنا الآن، نافذة شعرية نطل من خلالها على واحدة من القصص الرومانسية المأساوية التي تناولها التاريخ الكردي فقد نُشر العديد من الملحمات التاريخية، والتي أوقعتنا في كثير من دوائر الشك والبحث، ولكننا في النهاية نصل إلى صورة ولو جزئية تجعلنا نمجد تلك الملحمات، لتتداول على ألسنة الكتب.

يقدم لنا الأديب السوري عبد الباقي يوسف إحدى تلك الملحمات والتي تُرمز كونها من الأدب الشفاهي، ويعتبر هذا الأدب من أبرز الكتابات في أصول الأدب العربي.  وقد امتاز بأسلوبه الشاعري في السرد وما يحمله من معنى ورمزية لتلك القصص و امتاز هذا اللون بتناوله لبعص قصص التراث والتاريخ ليعزز من الثقافات التي يراها البعض واحدة من التقاليد، والأعراف.

وتعتبر ملحمة سيامند وخجي واحدة من تلك الثقافات التي تناولها الشعب الكردي ككثير من الملحمات كملحمة جلجامش، وملحمة شيرين وفرهاد.  ومع تغير أصول وتناقل أحداث الرواية من جيلِ لآخر، ظل سيامند محتفظاً بتلك السمة الثيولوجيا التي هدفت ليراه التاريخ رمزاً للتمرد على واقعه. فرؤى التاريخ الكردي قصة غرزت أنيابها، وصفعت الكثير من قلوب شعب كردستان جيلاً بعد جيل

سيامند الشاب الكردي المتمرّد الذي حفى وراء الحرية بأسلوبه وأفكاره التي رآها الجميع ومضةً في تحويل مسار حياته، فقد كان من أولئك الصبية الذي جرّدتهم الحياة من سبل الأمان كونه يتيماً. فقد أرضعته الحياة قساوة عمه وزوجته، بعد أن توفى أبوه ورحلت أمه عنه ولهذا بحث عنها بعيداً بين ظلال الجبال القاسية التي كانت تشبهه والطبيعة التي كانت كأم له.

فرضت طبيعة وسيلوچية سيامند أن يعلن تمرده الحافي في وجه الحياة، لكي يثأر لنفسه ويبحث عن حريته المسلوبة، حتى ثارت تلك الطبيعة داخله كبركان أوشك على الانفجار ليلملم أفكاره الخبيثة ويوقع زوجة عمه في فخ لتُحضر له طعاماً قد أخبرها إن زوجها قد أرسل في طلبه، ليذهب سيامند في رحال الطبيعة ويحتضن رفقاه الجدد، ويتعايش معهم في وعاءِ فكره الجديد.

وبين طبيعته وثورته ذاع صيته بين القرى كصورة متوحشة صار الجميع يخشاه، وعندما حاول أحدهما الإمساك به بخدعة القاها له قاوم سيامند لينال حريته مرة أخرى ويخطو بقدمه بقوة ليسلب من الحياة ما سلبته منه.

سطر لنا الأديب عبد الباقي يوسف بأسلوبه شكلاً درامياً أحاط بتلك الملحمة وإن كان لم يتعمق بنا كثيرا مما جعل السرد يسير بنا تجاه أصول القصة بعيداً عن الشكل الدرامي الذي وضعه ليُكمل بنا الرحلة ونعود بالزمن إلى تلك المشاهد، ونشاهد ذلك الشاب وهو يقطع أوصال العقبات التي وضعت أمامه، وهو ينهال على الحياة بقوة ليصبح أسطورة تتناوله القرى والممالك، حتى وصل بنا الكاتب إلى الغصن الآخر من تلك الملحمة والتي أشاد بها التاريخ كونها رسمت ملامح سيامند الإنسانية وجعلته يتفوَّق على طبيعته القاسية، ليتعثر سيامند ويرتطم بخجي تلك الفتاة الجميلة التي سحرته، وجعلته فارساً يستكمل بطولاته داخل قلبها.

وما بين الرؤى التي انتشرت حولهما نستطيع جذب حقيقة واحدة وهي إن سيامند تغلف قلبه بخجي  التي هي زهرة محاطة بسبع جدران( أخوة) يستنشقون رحيقها الحبق، رافعين سيوفهم أمام من يحاول اقتلاعها، ليأتي أسطورة جبال كردستان ويقعد معهم وصال الحب.

وعندما يعلم العاشق بأن زهرته ستزف لابن زعيم قبيلتهم استشاط غضباً، وقرر إعلان العصيان والتمرد واقتطفها بقوة أمام الجميع معلناً إنها زوجته، ليتّحدا معاً ويرحل بها هارباً نحو الجبال موطنه الثاني، حتى يستقر سيامند بين أحضان حبيبته غافلة عيناه ليفيق فزعاً على تلك الحبات المتلألئة الساقطة من عينيها عندما رأت سبع تيوس يقضي عليهم تيس أعرج يبدو عليه الضعف ويجذب من بينهم ظبية ويرحل بها بعيدا، لتتذكر خجي ما قد أصاب أشقاءها بعد رحيلها فيقطع لها سيامند وعداً أن يجلب لها رأس ذلك التيس الذي تسبب في بكائها وبالفعل يذهب وينهال عليه ذبحاً ولكن كانت الطبيعة تستحضر له حياة أخرى ليقذف به التيس بعيداً ويقع سيامند من فوق المنحدر كفريسة ألقت بها الحياة في كفنها ويرتطم بأحد الغصون المدببة فتخترقه بقوة لتعلن نهاية رحلة تلك الروح الشاردة.

 

لنصل إلى نهاية الركب عندما سار بنا الكاتب وراء مشاعر خجي وهي تستنشق رائحة ألم حبيبها، وقد كان هنا يمتاز بسلاسة الوصف ورومانسية اللحظة التي خطفتنا لنراها وهي تصيح باسمه باحثة عنه بين جدران الطبيعة حتى وجدته مطعوناً ينزف بلا يد تمسك به، وحينها يظهر أشقاءها السبع لإنقاذها فترجوهم إنقاذه ولكن للحياة كلمة وصوت آخر أن تجعل نهاية رجل الجبال تنتهي بطعنة الحياة المميتة.

فتذهب محاولاتهم عبثاً، حتى يعلن سيامند استسلامه لأول مرة من أجل الحب لكي يبقى على حبيبته، ويرجوهم الذهاب بها في أمان.

وها هي لغة الحب تفرض سيط كلماتها، تلتهمك وأنت حي ومع هذا لا تشعر بشيء بل يمكنك أن تطالب بالمزيد ولا يرى أحدهم ابتسامتك وأنت ترحل حاملاً وعائها. تخدع خجي أشقاءها لتسرع عائدة إلى سيامند مطالبة منه أن تشاركه  فراش الموت بكل حب فتعصب عينيها بمنديلها وتهرول مسرعة نحو الهاوية ليرتطم جسدها بجانب سيامند ليكتب لنا التاريخ نهاية ملحمة أثارت الكثير من الأقاويل والتفسيرات داخل صفحاته قائلاً لنا لم تهزم الحياة بجبالها وأرضها تمرد رجل، بل هزمه عشق امرأة كتبت قصتهما بين صفحات التاريخ.

الملحمة من التراث الكردي والتي تلهم الكثير بتلك التضحية لأجل الحب ولكن اثار الكاتب عدة نقاط وجدتها غير كافية كطريقة السرد التي افتعلت داخلي الكثير من المتاهات ولم أعد أفرق بين الراوي وبين أبطال القصة، مع كونها امتازت بأسلوب سلس، وبسيط، واللغة منمقة تليق بالشكل الممزوج به الرواية ولكنني انتظرت منه أكثر من ذلك في عرضه لنا لتلك الملحمة.

من أجواء الرواية:

وحوافر الحصان تجري بجسدينا المتّحدَين على صعقات برق، غمرني إحساس طائر بأنني حظيتُ بقسمتي في الحياة،

ظفرتُ بحصة الروح، وليس أمامي درب سوى درب الاحتفاظ بأميرة عشقي.

كل لحظة حرمان اكتويتُ بلظاها،

تبرعمت إلى لحظة ظفر وهبتها لخجي

 

كل لمسة حنان افتقدتها،

أمست لمسة حنان ضممتُ بها خجي

كل دمعة شوق سكبتها،

تحوّلت إلى دمعة لقاء سكبتها في حضور خجي

كل ترنيمة عشق تخيلتها،

أصبحت ترنيمة عشق دندنتُ بها لخجي

خجي التي علمتني  معنى الرجولة،

علمتني كيف يتحوّل الحب إلى قضية،

علمتني كيف أرقص،

وأغني،

وأبكي ،

وأضحك في لحظة واحدة .

وأنا هائم في حب خجي،عرفتُ متعة ترقرق دموع الشوق في العينين

خجي التي عزفتُ لها أجمل الألحان قبل أن أراها

غنيتُ لها أروع الأغاني قبل أن ألتقيها

خجي التي استحضرتها في نومي،

وفي يقظتي،

في ضحكي،

وفي بكائي.

تحولت إلى قمر في سمائي،

إلى شجرة ورد في صحرائي،

خجي التي أتت لتستفتح نبضات القلب،

ثم تضع عليه ختم حبها.

 

شيرين رضا – القاهرة