الشعر والفلسفة- بيار روباري

 

قبل الدخول في الحديث عن العلاقة بين الشعر والفلسفة، دعونا نتوقف أولآ عند مفهومي الشعر والفلسفة لإنعاش الذاكرة وكخلفية لموضوعنا، ومن ثم نعرج على العلاقة بين الإثنين.

 

الشعر:

بالمختصر هو شكل من أشكال الفن الأدبي، مكوناته اللغة الأدبية، الموسيقى الشعرية، الصورة الجمالية، ويرمي إلى هدف معين وإيصال رسالة محددة. بعبارات أخرى الشعر هو كلام موزون ومقفى له بنية لغوية منظمة، يحمل موسيقاه بداخله ويتمتع بصور جمالية غير موجودة في الكلام العادي والنثر. وللشعر طريقة خاصة في قراءته وإلقائه. إن وصف المرء لمشاعره برهافة وبتعبيرات مختصرة تجاه شخص أو شيئ أو حالة ما، فهو بداية الشعر.

 

الفلسفة:

دون الدخول في تعريفات أكاديمية لا طائل منها، الفلسفة بإختصار شديد هي: علم ارتبط بماهية الإنسان لتجعله راغباً في المعرفة، ونقصد بذلك معرفة الأشياء بحقائقها الكلية. ويعتبرها الفلاسفة أنها إم العلوم، وتعنى بالعلاقة بين الأشياء وتحفز العقل. وككلمة تعني المُحب للحكمة. وأول الفلسفة هو الشعور بالدهشة ومن ثم التأمل.

 

الفلسفة والشعر

من خلال قراءتي لتاريخ العلاقة بين الشعر والفلسفة في الشرق والغرب، وموقف الفلاسفة السلبي عمومآ من الشعر والشعراء وأحيانآ حتى العدائي، يمكنني القول إن العلاقة بينهما ملتبسة ومتنافرة. وبرأي هذا الإلتباس والتنافر مصطنع ولا يستند إلى العلم والمنطق، ومبعثه هو نوع من الحسد والغيرة ويتخلله نوع من الغرور في الحالات. فرغم العداء للشعر والشعراء من قبل العديدين من الفلاسفة في مراحل معينة،

إلا أن الشعر بقيا ونشط ولا يزال متوجآ كتاج الأداب.

 

الرابط المشترك بين الفلسفة والشعر هو اللغة، ليس اللغة فقط وإنما هناك علاقة أخرى تجمع بينهما، وهي علاقة معرفية فما تتوصل إليه الفلسفة يجسده الأدب بأجناسه المختلفة من شعر وقصة ورواية ومسرح. الاختلاف بينهما يكمن في آلية تقديم كل منهما نفسه من خلال اللغة. التعبير الفلسفي قريب من الواقع، كونه يخاطب العقل الإنساني وتحثه على البحث عن الحقيقة. بينما التعبير الشعري مقترن بالأفق الكوني في جوانبه المعرفية، وبالخيال في جوانبه الإبداعية الهادفة إلى المتعة والجمال، كونه يخاطب الروح في الإنسان والوجدان في الإنسان. وفي رأي داخل كل شاعر فيلسوف أو متفلسفٍ بالضرورة.

 

هذا لا يعني أن الفلاسفة، أشخاصٌ متحجري القلوب ومتطرفين في فكرهم العقلي، وليس لديهم مشاعر إنسانية وقيم جمالية. كما لا يمكننا القول بأن الشعراء، مجرد أشخاص “عاطفيين” ويعيشون في الخيال ولا علاقة لهم بالواقع، هذا غير صحيح كونه ومخالف للحقيقة.

 

الإنفصال

الإنفصال وقع بين الإثنين أي الفلسفة والشعر في زمان الفيلسوف اليوناني “أفلاطون” حينما وصف

الشعراء بأنهم: “صناع وهم ومفسدو عقول“، وإتهم الشعر بالخيانة، وأوصى بإقصاء الشعراء عن الجمهورية.

أفلاطون كان متطرفآ في موقفه هذا حسب رأي، ومن هنا أخذ بفكفكت أواصر التلاحم بين الفكر والنظم، بل بين الفلسفة والشعر، على اعتبار أن الفلسفة هي إشتغال بالمعرفة والفكر والحقيقة، بينما الشعر يشتغل بالعاطفة والوجدان والجمال. وإعتبر أن الفلسفة أي (العلم) يقترب من الحقيقة، بينما الفن والشعر منه  يبتعد عنه.

 

هذا الموقف المتطرف من قبل “أفلاطون” والحقد عل الشعر والشعر، جعل من بعض الفلاسفة النظر إلى الشعر على أنه خيانة للحقيقة والعقل والمجتمع وبالتالي خيانة للفلسفة. ونتيجة لهذا الرأي الشديد التطرف والغير عقلاني، تبنى الكثير من الفلاسفة الذين أتوا من بعد أفلاطون هذا الموقف السلبي بل المعادي للشعر ومحاربته.

ومن بين هؤلاء كان الفيلسوف”رينيه ديكارت” في القرن السابع عشر، “وجون ستيوارت مل” في القرن التاسع عشر، و”توماس بيكوك” الذي إعتبر الشعر: ” نشاطًا متخلفآ لا ينتمي الى روح العصر الذي يهيمن عليه المعرفة والعقل والتنوير“.

أما “توماس هكسلي” فقد نعى الشعر وإعتبر أنه من الحمق والشعوذة وجوده في عصر العلم والمعرفة والتنوير. ومن جهته طرح “جورج بواس” مقولته الشهيرة: “تكون الأفكار في الشعر عادة غالبآ زائفة“. وأما “ت.س إليوت” فقال: “لا شكسبير ولا دانتي قاما بأي تفكير حقيقي“.

أنا أعتبر هذه الأراء مجرد هلوسات ولا علاقة لها بالعلم واللمنطق والواقع، وبدليل الكثيرين من الفلاسة والمفكردين الكبار قدموا أفكارم للجمهور عبر الأدب والفن، شعرآ، رواية ومسرح، ومنهم الفيلسوف الفرنسي المشهور وصاحب مدرسة “الفلسفة الوجودية” بول سارتر. ووضع الفيلسوف “ألبير كامو” فلسفته في (العبث) منطلقآ من الرواية والمسرح أيضآ.

 

في المقابل رأينا كيف دافع بعض الفلاسفة عن الشعر، وعلى سبيل المثال افيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” حيث كتب:

يجب العودة إلى ما يعتمل في أنفسنا من عناصر بدائية للارتشاف من نبع العاطفة، حتى ولو أدى ذلك الى تحطيم الفكر التحليلي“. أما الروائي “د. هـ. لورانس” رأى أن “هيمنة العقل وتغلبه على العاطفة هو المسؤول عن مصائب القرن العشرين“.

وإلى جانب هؤلاء، دافع عن الشعر والشعراء كل من (إبن سينا، الفارابي، الجاحظ، أبو تمام، البحتري، المتنبي، أبو حيان التوحيدي وأبو العتاهية)، وإعتبروا أن الشعر أدبٌ فيه العديد من الفوائد والمنافع والمتعة، ويحث على الفضائل الإنسانية، ويهذب النفس، ويرفع من سوية الذوق العام.

ولا ننسى أن الفكر الإغريقي نفسه أخذ من الصياغة الشعرية أساسآ لفن الخطابة، بحيث كان يتخذ هذا الفكر من الصياغة الشعرية وسيلة للتعبير عن حقائقه ومضامينه، ونجد أن صاحب الإلياذة “هوميروس” كتب فلسفته بحروف من الشعر، ونفس الشيئ فعل الفيلسوف والشاعر أبو العلاء المعري.

 

الفرق بين الشاعر والفيلسوف:

الفيلسوف بحكم إهتمامه بالواقع والوجود، ينصت إلى صوت الحقيقة كما تتبدى له، بينما الشاعر بحكم إهتمام بالجمال والمشاعر والأحلام، ينصت إلى روحه وخياله ووجدانه وعاطفته المتقدة.

حسب رأي على الشاعر عدم إعتناق مذهبآ أو فكرآ معينآ بعينه هذا يضر به، وعليه أن يعتمد فقط على قواه الشاعرية النابعة من نبضات قلبه وإحساسه، أكثر من أفكار عقله. كي يصدح بلا قيود ولا يحصر نفسه في لون وفكر وبوتقة واحدة. هكذا يمكن أن يتنقل بين الأغصان والأشجار والحقول والبساتين والسهول والوديان والهضاب والجبال المختلفة والمتنوعة.

إذا طرق الشاعر باب الفلسفة، فعليه أن يدرك أنها ستقيده بقواعدها ومناهجها الخاصة بها، وهو شخص لا يستطيع العيش مع القيود، وهذا أمر طبيعي لأنه شاعر مثل الطير وليس فيلسوفاً. ومن الصعوبة عليه أن يلتزم تماماً بالفلسفة نهجاً ومنهجاً. وإذا تفلسف الشاعر، فلا تعدو كونه لوناً من ألوان الفكر الشعري، وليست فلسفة خالصة.

الشعر هو الملاذ الوحيد للخروج من صمت العالم، ومن رتابة الحياة واللغة وعجزها عن أن تبلغ التخوم، كما قال الفيلسوف الألماني “فردريك نيتشه”. وأنا من رأي أن يبقى الشاعر شاعرآ، ولا يضر أن يتفلسف بين الحين والأخر، مع معرفة حدود عالمه وحدود الفلسفة الصارمة وذلك خوفآ على الشاعر وليس على الفلسفة.

 

في الختام، الشاعر إنسان مرهف الأحاسيس والمشاعر، ويتأثر بأدنى شيء يلامس أو لنقل يثير جوانحه وخلجاته، وسرعان ما يكتب قصيدة، وينتقل إلى غيرها مع ملامسة أخرى غير تلك الأولى، فتولد قصيدة جديدة من نوعٍ وشكل أخر. هكذا دواليك يمضي الشاعر عمره منتقلآ كالنحلة من زهرة إلى أخرى، ليلقح الأزهار ويصنع لنا الشهد.

وبقناعتي الشعر والفلسفة في النهاية يكملان بعضهما البعض، ولكل منه دوره في الحياة ويخدمة البشرية بطريقته ولا تعارض بينهما، حيث مجال عمل كل منهما منفصل عن الأخر بشكل أو أخر. وأنا كشخص مُحب الفلسفة وقارئ لها، ومن الجهة الثانية كشاعر لم أحس يومآ بتعارض هذين الحقلين المهمين في حيتنا الفكرية والفنية والأدبية.

 

31 – 05 – 2021

One Comment on “الشعر والفلسفة- بيار روباري”

Comments are closed.