معالجة مرض الفساد بدلا من تسییسه- د. عبدالباقی مایی

٢\١\٢٠١٨

عرضنا فی مقالتنا السابقة (الفساد مرض نفسیإجتماعی) المنشورة فی موقع صوت كردستان بتأریخ ٢١\١٢\٢٠١٧ مقدمة موجزة حول الفساد كمرض نفسیإجتماعی تشمل أسبابه وأعراضه وكیفیة تطوره وتشخیصه والوقایة منه ومعالجته

وقد أشار الإشتراك الواسع فی نشر المقالة فی مواقع التواصل الإجتماعی إلی أهمیة الموضوع رغم حداثته والحذر السائد فی المجتمع من تناول موضوع الفساد بسبب تسییسه فی جو متوتر یسود فیه التناحر السیاسی والتشكك فی تزاید الإضطرابات والمظاهرات والتعبیر الحر عن الرأی المعارض للسیاسة التی تستمر السلطة فی تبنیها رغم إستمرار الأزمات وتعمیقها. فقد إتسمت ردود الفعل إما بالسكوت عن التعلیق كتعبیر للرضی لدی الخائف أو الإستنكار لعدم فهم الموضوع أو سوء إستعماله. وبما أن قانون (نیوتن) الذی ینص علی أن “لكل فعل رد فعل یساویه فی المقدار ویعاكسه فی الإتجاه” لازال یعتبر من أهم النظریات العلمیة ساری المفعول فیمكننی تعدیله كما یلی لیشمل علم النفسیإجتماعی أیضا “كل تجدید یولد فی البدایة رد فعل مضاد إلی أن یجد مكانه”. وبناء علی ذلك یمكننا تفسیر المعارضة الشدیدة للإعلان عن مكافحة الفساد وذلك لكون النظرة السیاسیة هی التی لاتزال تسود فی المجتمع، ولكون الجهات السیاسیة تستعمل مصطلح الفساد بمثابة شتم و سب ضد خصومها، وكذلك لكون الفساد یصیب الضمیر والأخلاق أولا، فیۆدی إلی تجریح المصاب الذی لازال یملك ضمیرا حیا یۆذی صاحبه كما یۆذی الخراج مریضا مصابا بإلتهاب متعفن. وكلما تعمقنا فی توضیح نظریة الفساد كمرض نفسیإجتماعی نستطیع نشر الوعی والإدراك للحقیقة العلمیة لهذا الوباء الفتاك بعیدا عن النظریة السیاسیة التی عجزت عن معالجته بل أوسعت من نشره وعمقت فی نتائجه المدمرة.

عملیة تسییس الفساد، كما هو الحال فی تسییس ثورة الشباب وغیرها من المظاهر النفسیإجتماعیة فی المجتمعات المتأخرة، ما هو إلا دلیل علی إستمرار سیادة الجهل وفیه مخاطر جسیمة منها الإنحراف واللجوء إلی أعمال العنف. بینما یۆدی التعامل مع هذه المظاهر بوسائل علمیة وسلمیة إلی تسمیتها بأسمائها الصحیحة وتشخیصها بموضوعیة بعیدا عن التشنج وتبادل الإتهامات. وكلما نجح المجتمع فی تحویل وسائل التعامل الأولی بالثانیة تحول هذا المجتمع نحو التحضر والتمدن. وهذه عملیة یستوجب تبنیها من قبل الطبقة الواعیة فی المجتمع قبل غیرها.

علینا أن نتذكر كیف كان التعامل مع الأمراض المعدیة الفتاكة فی المجتمع كالطاعون والجذام والجدری والتدرن والأیدس وإلتهاب الكبد الڤیرسی وغیرها بالتعاقب خلال فترة لیست بطویلة بإتهام المرضی وحرقهم وسجنهم وحجزهم وعزلهم عن المجتمع إلی أن تم الكشف عنها كأمراض لا علم ولاحول ولاقوة للمریض علی نشوبها بل تم تدریجیا تشخیصها وتوفیر العلاج المناسب لها فتحول المجتمع من محاربة المریض ومعاقبته إلی مكافحة المرض و توفیر الوقایة منه والعلاج الناجح للقضاء علیه.

نحن فی كردستان العراق نمر بمرحلة تحول إجتماعی سریع من الإنغلاق والتأخر إلی الإنفتاح والتمدن نصادف فی طریقنا العدید من  مظاهر الخبط واالتزییف وسوء الفهم والإستعمال للمصطلحات السیاسیة والمستهلكات المادیة التی یتم إستیرادها من الخارج المتمدن دون تخطیط مسبق أو دراسة علمیة، فیتم تطبیقها دون وعی أو إدراك ولا تكییف أو تصمیم یلائم قیاساتنا وقیمنا فتنتج من ذلك عملیات تناحر وتناقض هدامة یستفید منه أصحاب المال والجاه والسلطة علی حساب الأغلبیة الفقیرة والجاهلة والساذجة فی المجتمع. وبما أن السلطة السیاسة عموما قد برزت من الكفاح المسلح فلیس من المنطق أن نتوقع منها إدارة متمدنة ومتحضرة لتعی ما تعمل أو تعنی ما تقول فتردد المصطلحات والعبارات الرنانة المستوردة من الخارج المتمدن الذی أدخلها إلی مجتمعنا من أجل مصالحها لیس إلا. لذلك یتم تسییس كل شێ فی مجتمعنا سواء بدرایة أو عن جهل، فتصبح النتیجة عینها من لجوء إلی إتهامات غیر موثوقة و فهم غیر مضمون وردود فعل غیر متأنیة ومواقف متضاربة ومصالح متناقضة وتضارب غیر مبرر وعداء هدام لیس فی مصلحة أحد.

مرض الفساد هو من أخطر نتائج مواقف السلطة التی أدخلته فی جمیع مفاصل الدولة لكی تبنی أركان حكمها وتضمن سلطتها دون أن تنتبه إلی نتائجه المضرة بالجمیع. وعندما إنتشر مرض الفساد فی المجتمع لیصبح وباء فی طریقه إلی إصابة الجمیع لا یمكن التخلص منه بالأسالیب السیاسیة الكلاسیكیة بل یجب علینا تشخیصه كمرض یمكن تشخیصه ومحاربته بطرق سلمیة وأدوات علمیة مجربة قد تم البدء بإدخالها وتدریبها و تطبیقها فی مركز محدد تتوفر فیه الكفاءات العلمیة القابلة لفهم الموضوع والتمرین علی تطبیق الأدوات النفسیإجتماعیة بتدریب المدربین لنشرها تدریجیا فی بقیة المنشأت والمرافق الخدمیة فی المجتمع.