1-8-2019
يعد التاريخ من الاولويات التي يهتم به الانسان ويعمل على تدوينه لانه في وعيه العياني ” الحاضر ” يبحث عن منافذ يتسلل من خلالها الى مستقبله وهو يدرك بان ذلك الامر لن يتحقق دون العودة الى ماضيه ووعي تلك المراحل التي مر بها، وفلسفة التاريخ ليس الا مخاض هذا الوعي وهذه الرغبة للانسان في استنطاق ماضيه من خلال تلك الاثار التي خلفها على جميع الاصعدة، الحياتية اليومية ، الفكرية ، العمرانية ، وحتى الظواهر الطبيعية والى غير ذلك من تلك المخلفات الانسانية التي تعتبر في معطياتها مخلفات تاريخية. وهذا ما يمنطق بالتالي الرؤية الحداثية لمفهوم التاريخ او لنكون اكثر دقة فلسفة التاريخ وبعبارة اخرى مفهوم التاريخ في الفلسفة، باعتبار ان التاريخ فلسفياً ليس مجرد نقل ورواية وسرد الاحداث والوقائع ، انما هو دراسة كُلية وتحليل تلك الاحداث وفق رؤية اكثر عمقاً من الرؤية الظاهراتية ، ومن ثم تحليلها لادارك ماهية تلك الاحداث والاسباب التي كانت ورائها، ومدى التاثير الذي خلفه سابقاً وحديثاً على الانسان، ومن خلال ذلك يمكن النظر الى المستقبل وفق تداعيات نسبية، وهنا يكمن مكمن القول ” نسبية ” لان تلك التأثيرات في الحاضر يتحكم بها جملة متغيرات وتحولات غير قابلة للثبات، والقول بعدم قابليتها للثبات يأتي من خلال التحولات الاقليمية والدولية وفق الصراعات على جميع الاصعدة ” القومية – الدينية المذهبية – الايديولوجية – الاقتصادية… ” وبالتالي الرضوخ ل” بان مراحل التاريخ السابقة تحتم الحالية بكلية مطلقة امر غير مقبول، وغير منطقي” ، لأن القديم يمكنه فتح اعيننا على ما مررنا به لنصل الى هذه المرحلة الحالية، لكنها ليست شرطاً مطلقاً لان نبقى كما يفرض علينا تبعيات تلك المراحل، وهنا يأتي دور حركية المجتمعات التي تُقر دور الانسان في صناعة التاريخ ، وبالتالي فان الجدلية التي تفرضها احيانا الوقائع والاحداث وفق ما هو سائد ” التاريخ يعيد نفسه ” لايمكن اطلاقها وتعميمها اكاديمياً، فالشعوب التي تعمل على زيادة وعيها يمكنها اعادة تدوير المفهوم وفق قاعدة اخرى، وهي ان التاريخ لايتوقف عند نقطة التحول الوحيدة في حياة الشعوب، اي ان النقطة الاكثر تألقاً وعظمة عند الشعوب يمكنها ان البقاء كنقطة اكثر تألقاً وعظمة ولكن ليس الشرط ان تظهر النتائج بصورة فورية فالوقتية هنا خارجة عن زمنية تتعدى حدود الزمن الذي يحدد ملامحه الانسان بكامل وعيه، لذلك ادوات التطوير والنمو والسير نحو الحرية كما يراها هيجل تحتاج الى التأني في تأمل مفاهيم التاريخ وعدم الخضوع للمنطق السائد على انه قطعي ومطلق، التكرار يمكن ان يكون نقطة تحول مغايرة للشعوب حين يتعاملون مع المكررات بوعي اخر غير الذي تم التعامل معها سابقاً” التغيير ” وبذلك تحقق الشعوب نقلة موضوعية ومهمة في تاريخ وعيها البطيء للتاريخ نفسه، وللعملية التاريخية وصيرورتها ايضاً،وهذا هو ما يؤكده سارتر الذي يرى بأن التاريخ ليس قدراً او قوى تتحكم في الانسان، انما الانسان هو من يصنعه ويحوله عملياً ونظرياً، بمعنى اخر ان التاريخ يعتمد على وعي وارادة الانسان ، وهذا الوعي وتلك الارادة ليس شرطاً ان تظهر فجأة وبصورة واضحة المعالم لدى الشعوب، لكونها تحتاج الى الوقت الكافي للنمو والتطور وفق معطيات لاتنتمي للزمنية نفسها، فالانسان لايمكن ان يزرع بذرة ويتأمل ان تنبت في لحظتها، انما تحتاج الى نطاق زمني تتحكم به الظرفية من جهة، والبيئة من جهة اخرى، ومن خلال الامرين هذين يمكننا ان نحدد ملامح التاريخ بشكل اكثر وضوحاً، فالظرفية التي نسعى لتخطيها، يتحكم بها جملة متغيرات اقليمية ودولية وداخلية، وتلك المتغيرات هي وليدة الحركية، فالسائد ان الركود لايخلق متغيرات لاسيما على مستوى الوعي، اما البيئة فلانها تمس المجتمعات وفق المتداول عنها والصادر منها، نجدها تحتم على الواعي والساعي لادراك او حتى تدوين تاريخيه ان يتأني في الحكم عليها، المجتمعات قد تكون في حالة سبات بنظر الكثيرين، وذلك حين ينظر اليها بمنظور شخصي ويسقط ما يمر به حياتياً شخصياً فكرياً عاطفياً على العام، وهنا تكمن الاشكالية التي تزداد سوءً يوما بعد يوم من خلال الانسلاخ التام من القيم الاجتماعية والبدء باتهام المجتمع بانه متخلف وغير واعي، ولعل النظر بعين اكثر عمقاً، والعمل بجدية لتحليل الوقائع والاحداث، ومن ثم الاخذ بنظر الاعتبار جملة المتغيرات على جميع الاصعدة، سيتبين للناظر بأن المجتمعات ليست راكدة، انما هي في نمو وتطور بطيء لاسيما مجتمعاتنا الشرقية لكونها تعيش وفق منطق مغاير للمجتمعات المتحررة من القيود الدينية والمذهبية والقبلية، وهذا التطور يجعلنا ان ننظر الى مسالة التكرار وفق منطق اخر، ليس الذي يذهب على انه لايوجد شيء مختلف ومغاير في الحدث الاني الحاضر، بل هناك الكثير مما يجب ان نراه وراء الحدث نفسه، فعامل الخيانة مثلاً قد يكون متكرراً في تاريخ بعض الشعوب، لكنه في كل مرحلة يختلف عن سابقها، على الرغم من الهدف والنتائجية المتكررة وهي مثلاً زوال حركات تحررية لشعوب مضطهدة، والعامل المغاير يكمن في الوعي الذي يلتقط في كل مرحلة ذلك العمل الخياني ويسقطه على متغيرات ومتحولات مستقبلية، وهنا حتى ان لم يتغير الوضع انياً ولم تستطع تلك المجتمعات على التخلص من عقد الخيانة تلك، الا ان الوعي باسباب الخيانة ومن ثم الوعي بالنتائج المترتبة من الخيانة، ومن ثم تدويرها كمفهوم تاريخي يرافق ذلك الشعب بحد ذاته يعد تحولاَ مهماً، ويمكن عده ايضاً تغييراً ووعياً يمر بمرحلة تطور ونمو بطيء، وهذا ما يدفعنا الى القول بأن لكل حدث وواقعة تاريخية ملامح ظاهرية تتمثل بسرد اخبار تلك الحادثة والواقعة، وفي الوقت نفسه لها ملامح باطنية كما يؤكد ذلك ابن خلدون ، وهذه الملامح الباطنية تهدف الى التحقق ودراسة تلك الاحداث وتحليلها وفق معطيات آنية ” الحاضر” وذلك ما يفتح لنا باب الكيفيات والاسباب، ومن ثم ملاحظة المتغيرات التي طرأت على جوهر الحدث او المتغيرات التي ترافق ماهية وكيفية التعامل مع الحدث، ومما لاشك فيه ان الشق الثاني ” كيفية التعامل ” يعد بحد ذاته نقلة موضوعية في الوعي وفي التطور والنمو لدى الشعوب بعيداً عن التفسير اللاهوتي الذي يقضي بأن التاريخ يسير وفقاً للارادة الالهية، او التفسير الدوري الذي يعتبر ان التاريخ يسير بمقتضى قانون العود الابدي، فالتاريخ يخضع للعقل البشري المطلق الذي يتحكم في سيره ومجرياته فضلاً عن القيمة الاقتصادية التي تقود الصراعات وتؤثر على مجريات التاريخ، وهنا لايمكن الوقوف عند حتمية العود التاريخي والتكرار الا من خلال المتغيرات الترافقية التي تعطي لكل مرحلة قيمتها التاريخية من حيث التطور والنمو ” الذي سبق وان قلنا عنه البطيء ” ولكن ذلك لايمنع ابداً اننا نعيش وفق تداعيات متجددة، فبعض الشعوب مثلاً كانت تستخدم القبلية لحماية حدودها، لكنها تجاوزت ذلك الى توسيع حدودها، وتعاملت مع الخيانات وفق منطق خاص بها، ومن ثم تجاوزت العوائق لتبحث عن تأسيس الامارة ومنها الى الدولة ومنها الى الامبراطورية، هذا التطور لم يحدث بعيداً عن وقائع واحداث التاريخ المتكررة من خيانة وعوائق وحروب وفقر ومجاعات، لكنها لم تقف عند ملامح قانون العود الابدي ورضخت له، واستسلمت للواقع، بالعكس تماما، عوامل التكرار تلك نفسها تمر بمراحل تاريخية مغايرة ومختلفة وتتأثر هي الاخرى بالمتحولات الدولية والاقليمية لذلك لانجدها تصمد امام الرأي العام للشعوب، وبعيداً عن الصراعات الداخلية التي غالباً ما تكون بنظر الكثيرين هي السبب الاكثر تأثيراً لزوال المجتمعات، فاننا هنا بصدد معطيات ومقتضيات اخرى تضاف اليها لتكون بذلك مع الانحلال الداخلي قوة مضاعفة لهز الكيانات والمجتمعات، لكون المجتمعات التي تعاني داخلياً تهتز كثيراً بعدم وعي ابنائها بالضروريات التي تحتم عليهم لمساندتها، وعدم الانصياع للافكار الجانبية التي يتصورها هولاء بانها تمثل حرياتهم الشخصية وفي الحقيقة انها لاتتعدى كونها الاخلال بالنظام والسخرية منه، بل حتى انها تجعل من النظام هدفاً لهجماتهم، وبذلك تتسم المرحلة بالركود الظاهري وتبقى العجلة وكأنها تدور داخل دائرة ، فتظهر المقولات التي تمنطق ماهية العود الابدي للتاريخ، مع العلم بان التاريخ لم يتوقف بل ظل سائراً وانما عجلة التفكير لهولاء توقفت عند تلك النقطة التي يرونها سلبية ” بنظرهم ” الشخصي.