عند رؤيتها تابوتاً على عتبة دارها.
رجعت بها الذاكرة إلى الوراء أربعاً وعشرين عاماً، خمسة أشهر وتسعة أيام.
حيث أولُ يوم أصبحتْ فيه أُمّاً.
حينها كادت تطير فَرَحاً، حالها حال أية اُمٍّ تحتضن مولودها لأول مرة بعد طول انتظار.
لكن شيئاً ما مجهولاً بلون الخوف والقلق إن صح التعبير، كان دائماً مصاحباً لِفرحتها تلك طيلة الفترة أعلاه، منذ لحظة الولادة وإلى هذه اللحظة.
لم يكن الخوف من المستقبل ؟
ولا قسوة الحياة وتقلباتها ؟
ولا حتى الموت الطبيعي ؟
إنه باختصار، مشهد مؤلم حفر لنفسه مكاناً في ذاكرتها منذ أن كانت شابة لم تتزوج بعد.
ذلك الشيء، هو تلك الدموع الساخنة والبكاء والعويل لِجارة أهلها الستينية على ابنها الأربعيني، الذي تم إعدامه بتهمة خيانة الوطن والتخاذل في الدفاع عنه، وذلك طبعا حسب الرواية الرسمية آنذاك.
فهي في تلك اللحظة، تَخيّلتْ نفسها لو أنها كانت مكان هذه الأم المسكينة.
وذلك فيما لو تزوجت مستقبلاً، وأصبحت أمأً.
وهذا ما حصل لها اليوم وهي تتأمل ذلك التابوت، وللأسف.
فها هي الآن تقف أمام جُثّة إبنها الشهيد ملفوفاً بالعَلَم.
ملامح وجهها تعكس ذهولاً قاتلاً، وحَيرة مصحوبة بألفِ كيفَ ولماذا …
وهي تتلمس التابوت بحذر بيدين مرتجفتين، رافضة تصديق ما تراه عيناها على أرض الواقع جملة وتفصيلا.
هكذا استمرت على هذه الحال، حتى غابت عن الوعي مسافرة في دهاليز مأساة جارتها المُسِنَّة أعلاه.
لِتستيقظ بعد أقلّ من ساعة مُنهكة مُتعبة.
تتطلع إلى المحيطين بها بفضول، وكأنها تبحث عن شيء فقدته.
وتصرخ فجأة بأعلى صوتها : أين إبني، اُريد إبني ؟
ثم تعود إلى البكاء والعويل بشكل هستيري محتضنة التابوت، وهي تسرد لنا تفاصيل حلمها في رحلتها هذه بصعوبة بالغة في التنفس، والدموع تنهمر من عينيها، قائلة :
لقد وجدت نفسي في مكان غريب وسط مخلوقات تتكلم مثلنا، بالرغم من عدم وجود شبه بيننا وبينهم بحسب الظاهر.
حيث دار بيننا الحوار التالي :
[ هم : يبدو أنك مُتعبة جدا، ماذا حصل لكِ ؟
أنا : لقد فقدتُ ابني.
هم : أين وكيف ؟
أنا : في الحرب.
هم : متى سوف تتوقفون أنتم البشر عن محاربة بعضكم البعض ؟
أنا : وأنتم، ألا تنشب بينكُم حروب ؟
ثم واصلتُ الكلام لاُخبرهم بمصيبتي، فقلتُ لهم :
اُنا أم مفجوعة بفقد ابنها.
أريد أن ألتقي بأُم قد فَقَدت أبنها في الحرب، لعلها تُخفّف عني بعض الشيء من شعوري القاتل بالحزن والوحدة والفِراق.
هم : نحن آسفون جدا لِما حصل لابنك.
وآسِفون أيضاً، إذ ليس لدينا أُم فقدت ابنها في الحرب.
ببساطة، نحن لم نَخُض حروباً منذ عدة قرون.
أنا : ماذا تقولون، ليس لديكم حروب، هل هذا معقول ؟!!…
وما هو دور الجيش إذن، وأين يذهب ؟
هم : ومن قال لكِ أننا نملك جيشاً !!…
أنا : ومَن يدافع عن الوطن إذن، يحمي الحدود ويصد الأعداء ؟
هم : الأعداء !!…
لا وجود لمفردتَي الجيش والعدو في قاموسنا.
لقد وَلَّتْا من دون رجعة منذ زمن بعيد.
ثم واصلوا كلامهم بالقول :
من الصعب عليكِ فهم كلامنا هذا بهذه العُجالة، بل لا بد من التفصيل بعض الشيء.
فهل أنتِ مستعدة لذلك ؟
أنا : نعم، تفضلوا.
هم : أول شئ يجب أن تعرفينه عنا، هو أننا نعيش على كوكب آخر غير كوكبكم.
ولكننا نراقب كل حركاتكم وسكناتِكم عن كَثَب.
لا لهدف عِدائيّ.
ولكن لاستخلاص الدروس والعِبَرَ من تَصرفاتكم أنتم البشر.
فمنذ آلاف السنين وانتم تتقاتلون بكل ضراوة ولا زلتم كذلك.
أما نحن، فقد وصلنا إلى حقيقة مفادها أن :
الجيش، يعني القسوة والظلم والدموع والخراب.
فأينما حَلَّ الجيش، حَلَّ سَفك الدماء.
وجود الجيش، يعني أن تتجه أنظار الحاكم أياً كان إلى ما خلف الحدود لغزو البلدان الأخرى الأضعف عسكرياً.
وذلك بهدف سرقة خيرات تلك البلدان، من جهة.
وجعلها سوقاً إستهلاكية لتصريف منتجات مَشاريعه العملاقة، من جهة أخرى.
وهكذا، سوف تقع الحروب لا محالة.
ولهذا السبب، قرر كل سُكّأن كوكبنا وبلا إستثناء ومنذ أكثر من ألف عام على استئصال هذه الغُدّة السرطانية من بدن سكان الكوكب، والتي تُدعى الجيش.
فلا وجود للجيش عندنا إطلاقاً.
فكل الدول على كوكبنا المسالم الجميل هذا، خالية من الجيوش تماماً.
خالية من كل مظاهر القهر والعنف التي يعكسها الزّي العسكري المشؤوم.
ولهذا السبب، قلنا لكِ لا توجد عندنا أمٌ فقدت إبنها في الحرب.
وأنتم الساكنون على كوكب الأرض، الأولى بكم أن تَحذوا حَذونا في هذه الخطوة اليوم قبل الغد.
وتُلغوا كل مظاهر الجيش والعسكر.
وإلّا، فلن تحصدوا سوى الندم، والمزيد المزيد من الأمهات المفجوعات بفقد فلذات أكبادهنَّ.
ولِتقريب الفكرة، نضرب لكِ المثال التالي :
لديكم مقولة معروفة قَبل الثورة الفرنسية بعشرات السنين، تُنسب الى القس جان مسليّيه، حيث يقول فيها :
( اشنقوا آخر ملك، بأمعاء آخر قسيس ).
وأغلب الظن، أن هذه المقولة لم تأتِ من فراغ.
بل هي ردة فعل من تواطؤ السلطتين السياسية متمثلة بالملك، والدينية متمثلة بالكنيسة آنذاك، وذلك على حساب شقاء الشعب وبُؤسِه.
والآن، وحيث أن الشعب عندكم، هو الذي يدفع خيرة شبابه ثمن غباء الساسة وجنرالات الجيش الذين يخوضون حرباً هنا وأخرى هناك بحجج واهية.
إذن، فلا بد لكم من إلغاء الجيش في أقرب وقت ممكن.
وإلّا، فلا شك أنكم سوف تُضطرون يوماً ما لِرفع شعار :
( اشنقوا آخر حاكم يدعو إلى الحرب خلف الحدود، بأمعاء آخر ضابط يَمتثل لأمره ).
وما أن انتهت الأم المسكينة من سرد حلمها هذا، حتى صرخت بأعلى صوتها :
[ قلب الأم، لا يعرف ماذا تعني كلمة الخائن والشهيد.
فالوطن في قاموس الأم، هو حيث يعيش ابنها سعيدا، وليس حيث يموت ولو شهيداً.
قلب الأم، يعرف أن جنرالات الحروب، هم فقط الذين يعودون من الحروب إلى بيوتهم منتصرين أحياء، وذلك على أجساد أبنائنا الجنود.
تَبّاً لكل إنسان يحمل آلة القتل بيده وينوي القتل، حتى لو كانت عصاً أو سكيناً صغيرة.
اللعنة على كل مَن يريد أن يُزهقَ روحاً بريئة.
ثم واصلت الأم كلامها بصعوبة بالغة وقالت :
قلوبنا نحن الأمهات، ستبقى تنزف دماً، ما دمنا نفقد ولداً.
وسنبقى نفقد الولد، ما دامت هناك حربٌ.
وستبقى هناك حربٌ، ما دام هناك جيشٌ.
اُلغوا الجيش اللعين، لِيُنعم العالم بالأمن والأمان.
لا سلام أبداً أبداً مع وجود هذا الوحش الدموي الذي تُطلقون عليه إسم الجيش ].
وما أن أكملت الأم المسكينة جملتها الأخيرة هذه وهي بالكاد تتنفس، حتى سقطت جُثَّةً هامدةً بلا حراك فوق تابوت ابنها الشهيد، لتصعيد روحها وتعانق روح إبنها.
وكأنها تأبى أن تتركه وحيداً بعد الموت، وتعيش بدونه.
########
نهاية القصة.
========
بهزاد بامرني
2022-02-08
عاشت حياتك بهزاد