((الحضارة من الزمن الماضي في فكر كولن ولسن الفلسفي ))- كتابة وتحليل: زيد محمود علي

كتابة وتحليل: زيد محمود علي – محرر صحفي من اربيل

*يبقى الناس ، سجناء في سجن جدرانه من الورق ، يستطيعون ان يهدموها ببساطة اذا توفرت لهم الشجاعة الكافية ….
——————-
كان كولن ولسن من مجددي القرن الماضي ، في مجال الفلسفة والفكر ، والرواية الفلسفية ، حيث كانت كتبه الرائجة ذائعة الصيت زمن الستينيات ، مثل ضياع في سوهو والشك والقفص الزجاجي والحالم وإله المتاهه وطقوس في الظلام واللآمنتمي ومابعد اللآ منتمي واصول الدافع الجنسي والانسان وقواه الخفية ، ورحلة نحو البداية والمعقول واللا معقول في الادب الحديث والشعر والصوفية . والكتاب الوحيد الذي كنت معجبا” به هو سقوط الحضارة ، والمقصود في جميع ماطرحه كولن ولسن ، هو نظرية اللامنتمي وعلاقته بحضارة مريضة ويبحث في عمق التاريخ ، مشكلة تدهور الحضارة في ذلك الزمن .
وقد استغرب كولن ولسن والناشر عند صدور الكتاب في حينه ، أهتمام القراء في جميع انحاء العالم وبشكل لامثيل له ، ولم يتوقعه الجميع ، حيث تم ترجمة الكتاب بلغات عالمية ، وكانت الطبعة العربية ، مترجمة لمؤسسة دار الآداب اللبنانية .
يشير المؤلف بقوله أن فضولي لم يكن مقتصرا” على المسائل العلمية الخالصة ، فان لسر جيمس جينز يبدأ كتابه ( الكون الغامض ) بمقدمة كان يمكن أن تكون موعظة لاتختلف في شيء عما كتب باسكال :
(( يرعبني هذا الصمت الخالد الذي يتصف به هذا الفضاء اللا نهائي )) …
وهكذا أجد الآن ان جينز وايدنكتون كانا مسؤولين عن يقظتي بذهنية المفاجئة في سن الثانية عشرة . وكنت أعتبر آينشتاين أستاذي وكنت أؤمن بأنه قد علمني استحالة الوصول الى اي قرار نهائي بخصوص أي أمر . وحاولت ان اوضح لاصدقائي في المدرسة ان الفضاء لانهائي وانه محدود مع ذلك . ولاح لي ايضا” ان امكانيات الحياة الانسانية هي لانهائية ايضا” رغم كونها محدودة كذلك . والمؤلف تناول في الكتاب مفاهيم علم النفسآراء ، و(( عقدة النقص )) لادلر واعتبرها بالفكرة الاساسية ، فقررت ان رغبة كل انسان هي في الظهور بقدر الامكان ، ولما كانت آراء الناس تؤثر في الطريقة التي ننظر بها الى انفسنا ، فأننا نحاول ان نحتفظ بقناعتنا الذاتية عن طريق كسب احترامهم او صداقتهم . وهنالك وسيلة أخرى طبعا” : أن يبتعد الانسان نهائيا” عن الآخرين ويبني جدارا” حول احترامه لنفسه . وشعرت بان المجنون الذي يدعي بانه نابليون او روميل ، قد فعل ذلك . والفرق الوحيد بين المجنون والعاقل هو أن العاقل يريد من الآخرين ان يتعاونوا معه من اجل اثبات اوهامه . ويضيف كنت اجد في الكتابة ترياقا” ضد التعاسة والسأم . وصرت اخجل من مقالتي عن الافضلية فكتبت مقالات اخرى حاولت ان استخدم فيها المصطلحات العلمية ، جهد الامكان ، وكانت الفكرة المركزية في هذه المقالات واحدة دائما” : ان البشر آلات تحركها الانفعالات وان الرغبة في الحقيقة ، وان المجنون أسعد المخلوقات . وهنالك اربعة اشياء سامية في الكون ، والانسان هو أحد هذه الاشياء ، كنت متأكدا” من أن (( تاو )) كان مبدئي الايجابي في اللآشيئية ، وقد فهمت والمضي بعيدا” يعني العودة بأعتبار انه يعني ان الفكر كله انما يتبع ذيله (( عبث في عبث )) . وان معظم البشر يعيشون حياة كئيبة من الدرجة الثانية لانهم لايعرفون مفهوم النظام الروحي والذهني . ولاح لي فجأة ان الحل يكمن في الاستمرار على التنقل وفي عدم البقاء في اي مكان فترة طويلة لئلا ينتابني ، السأم ، وشعرت بأنه لم يكن هنالك شيء اهم من تحقيق الرؤيا المركزة . أعجبني عبارات كتبها نيتشة ، وعبر فيها بالضبط عن هذا الشعور ذاته : سأهاجر واحاول ان اكون سيدا” لاقطار جديدة ، وفوق ذلك سأحاول ان اكون سيد نفسي ، واغير مسكني كلما تهددني خطر العبودية ، ولن اتجنب المغامرة او الحرب ، وأنما سأستعد للموت لو حدث أسوأ الامور المحتملة – ولا أريد مزيدا” من هذه العبودية المهينة وهذه الاستثارة والكراهية والعصيان . وصارت لحظات الادراك تنتاب المؤلف في فترات متباعدة جدا” ، يقول أن التكرار يحول الانسان الى آلة فتصبح كل حركاته ميكانيكية . ويسأل المؤلف ، ماهو غموض العالم ، ويقول (كيغان ) : ان هذا العالم ياسيدي هو بكل وضوح مكان تعذيب وعقاب ، مكان ينال فيه الأحمق كل شيء ولاينال فيه الطيب والحكيم الا الكراهية والاضطهاد ، مكان يذب فيها الرجال والنساء بعضهم بعضا” بأسم الحب ويستبعد فيه الأطفال باسم الواجبات الابوية والتربية ، ويسمم فيه ضعفاء الاجساد باسم العناية الصحية ، ويوضع فيه ضعاف الشخصية في عذاب السجن المفزع ، لا لساعات بل لسنوات بأسم العدالة . ويتناول الكاتب عن الشاعر ريكله ، وكيف يستخدم الشاعر حكمة الشعر لتوجيه حياته الخاصة ، انه السؤال الاخلاقي الذي يصبح سؤالا” وجوديا” لعمق المحاولة الهادفة الى الاجابة عنه : ماذا سنفعل بحياتنا ؟ ونحن نعرف ان مقاييس الحياة عالية دائما” ويعني النجاح والفشل بالنسبة اليه معنيين جديدين تماما” فأما النجاح العادي فأنه يلوح له مسموما” : نجاح ممثل سينمائي أو رجل أعمال او مؤلف كتاب مشهور لأن ذلك ليس خوضا” في تفاهة العالم وتضييعا” لأمكانية الرؤيا . ويأتي الدور على الشاعر رامبو ، وتروي الاسطر من قصيدته ( بوهيميتي) …
القبضات التي تبحث في جيوبي الممزقة ، وانطلق ،
وفي سترتي من الثقوب أكثر مما فيها من القماش ،
وأنا عبد بين يدي الشعر تحت السماء الصافية
أنني اموت وأذوب بين الكآبة والقذارة والشرور التي تفيض حولي .
وقد شعر رامبو الشاعر ، بوصف حالة الناس ، بأنهم سجناء في سجن جدرانه من الورق ، يستطيعون ان يهدموها ببساطة اذا توفرت لهم الشجاعة الكافية .
وأن أعمق مايشعر به من خيبة هو شعوره بأن العالم
عدوه ، وأن عليه ان يدخل ..
على الارض وفوق السطوح
صوت المطر
للقلوب المتعبة تتألم
ومع ذلك فان اشد الالم
هو ألا أعرف لماذا
دون اي حب أو كره
أجد في قلبي هذا الالم
وأخيرا” اعلن الحرب على عقله ، وكان أدراكه من نوع أدراك بليك ، اذ كتب في احدى قصائده الأولى :
(( أن عقلنا الباهت يخفي عنا الأبدية )) كان العقل بالنسبة اليه ، تماما” كما كان بالنسبة لبليك ، يعني (( الرؤية الاحادية ونوم نيوتن)) وقد كان اكثر ايجابية من لورنس وأقوى منه ، رغبة . وانطلق يتحكم في عقله هادفا” الى تركيز تجربته الذاتية وحسب : (( عودت نفسي على نوع بسيط من التخيل ، إلا ان السيطرة على العقل تتطلب ضبطا” مستمرا” – خاصة اذا كان المرء يتمتع بالذكاء النفاذ الذي اتصف به رامبو ولورنس .
وينتقل المؤلف في الفصل الثاني اللآمنتمي والتأريخ – شبنغلر – الذي يمتلك عمق ادراكه وبالرؤية الموحدة للتاريخ التي يمتلكها شبنغلر . ويقول في كتابه من فعل التاريخ مافعله نيوتن للرياضيات ، إذ انه مارسم الظواهر التي كانت منفصلة عن بعضها في السابق في كيان متماسك من المعرفة . كان التاريخ قبله فوضى من الحقائق الغريبة عن الماضي ، في حين ان شبنغلر خلق تقليدا” جديدا” . وقد قال : ان الحشرات تشبه البشر ، لانها تولد وتنمو وتنضج وتموت ، ويتكون البشر من حجيرات بايولوجية ، اما الحضارات فأنها تتألف من البشر الذين يموتون وتخلفهم أجيال جديدة ، ويرفض ان تكون الحياة مجرد تكرار لا معنى له من التفاهات الانسانية …
يوصف ولسن المفهوم القيم للمؤرخ توينبي بين الحضارة الناجحة والحضارة الفاشلة ، فيقول ان الفرق يكمن في الاقليات المبدعة ( ذاكرا” في الوقت نفسه ان هذه الاقليات قد تعني انسانا” واحد ا” وحسب ) وتتألف الاقلية المبدعة من الافراد القلائل الذين يستطيعون ان يجابهوا التحدي الذي يواجهه المجتمع . وهنا تواجهنا مشكلة أشد أهمية ، فكيف يستطيع العبقري ان يقنع الأغلبية اللآمبدعة بمتابعته ؟ (( ان انتقال بريق الطاقة الابداعية من نفس إلى نفس هو بلا شك الطريقة المثلى )) ، الا أن ذلك ليس عمليا” – للآسباب التي أشار اليها المفتش العام – اما الطريقة الاخرى فهي طريقة التدريب – بوضع القوانين والتأكد من أن الجميع يتبعونها ، وبأستخدام كل قوى الزعيم والمشرع بالتأثير والاقناع والمخادعة والتشريع . يستخدم توينبي كلمة اغريقية لوصف ذلك وهي hy bris ويمكن ترجمتها بالكلمات الزهو والغرور والتكبر والانانية . وان by bris هي السبب في سقوط الحضارات ، لأتن الشعب الذي يعد جيشا” قويا” لمواجهة البرابرة الذين يهاجمون حدوده يصبح شعبا” عسكريا” في حين ان العقلية العسكرية لا تتميز بالعمق .