سرّ الفراشة البيضاء- فصل ( 13 ) – رواية حقيقية واقعية –  تأليف: فرياد إبراهيم

 

The Secrete of the White Butterfly

 

بعد دقيقتين ، دخل ضابط كبير ملتح  الذي تقدم منه وصافحه وأمر الجندي على الفور بالاتصال بهما وتوجه هو بدوره الى الموظفة. بالنسبة لزكي ، مرت الثواني ببطئ شديد. كان متوتراً للغاية قلقا هل يراهما أخيرا؟ او انها مجرد مزحة؟ وكيف يصدق عينيه إن رآهما أمامه بعد لحظات؟ بعد هنيهة تناهى اليه صوت مألوف على أذنيه. هش وبش وتعالت دقات قلبه.  ترامى اليه صوت مريم الصغيرة المألوف آت من مكان ما خلف الجدران.  كانت عيناه معلقتين على الباب الأخضر الصغير الفاصل بينه وبين الصوت. واخيرا انفتح الباب وظهر مومياءان يلفهما السواد بالكامل. بصعوبة استطاع تشخيص وجهيهما. كانتا من الهزال والشحوب بحيث كانتا اقرب الى الاموات منهما الى الاحياء. يا إلهي؟ماذا حدث لهما؟  رأى امامه عيني طفلته تنبشان في عينيه نبشا وتشعان املا وفرحا مشوبين بخوف غامر. عينان واسعتان كعيني كوسيتا الشقية في رواية (البؤساء) لعملاق الرواية العالمية الفرنسي (فكتور هوغو)، وزادتهما التعاسة والخوف والشقاء سعةـ يضاف اليها الاحباط واليأس. اما الام زينب فاكتفت بالنظر الى الارض بلا حراك. لم تكن بأحسن حالا من وحيدتها. يداها الهزيلتان متشابكتان في حيرة واستياء وعدم رضا فوق حضنها. ارتسم حزن عميق على محياها الشاحب. في تلك اللحظة تذكر نقطة هامة في حياتهما الخاصة ونشاطاتهما في الفراش مدة إقامته هناك.  الأمر الذي دفعه الى التسائل ماذا حل بها؟ هل تمخض شئ عن تلكم النشاطات؟ ماذا حدث في غيابه؟ اشتاق لسماع كل االتفاصيل.

ظلت الصغيرة تنقل النظر بينه وبين آغا معروفي والضابط الذي جاء ليشرف على المقابلة بنفسه، و برعب شديد مع فارغ الصبر في انتظار اشارة من الضابط. يبدو انهم علموها النظام الخاص بالكمب. وحالما لمحت الاشارة فتحت ذراعيها هاتفة وهي تطلق صرخة مكتومة: بابا بابا.

ونشر ذراعيه لاستقبالها. وفي اللحظة التي خطت اولى خطوة حال الجندي وبإشارة من الضابط وبينهما. رفع الضابط يده  اليها ثم اليه : “انتظرا لحظة.” فتجمدا في مكانهما كالصخر.

تأمل الضابط الكالح البشرة وجه زكي لثوان ثم وجه اليه السؤال الذي هزه من الاعماق .

“هل لي أن أعرف أولاً من هما؟ أي صلة قرابة تربطكما؟”

كان يتكلم العربية بلكنة.

“هما زوجتي زينب وابنتي مريم.” أجاب زكي وأوجس خيفة.  نقل نظرة بين الأم والابنة اللتين تحولتا الى صنمين بلا روح. ثم انتقل ببصره الى آغا معروفي الذي كان يقف عند موظفة الاستعلامات ثم عاد الى زكي وسأله: “ومن يكون هذا الرجل؟”

“صديقي السائق.”

فالتفت اليه الضابط قائلا له: “هلا تفضلت وانتظرت خارج الغرفة.” وامتثل الرجل على الفور.

دقق الضابط في قائمة الاسماء الطويلة التي تدلت من يده ثم قال: صحيح.

شعر الثلاثة بانشراح ما لبث ان اختفى. فقد ارتفع صوت الضابط الغليظ من جديد.

“هذا واضح ، ولكن لا يكفي. هل لديك مستندات ووثائق قانونية تثبت وترسخ ادعائك؟”

سارع زكي بإخراج جواز سفره من حقيبته وناوله للضابط الذي تلقفه من يده بكلتا يديه وبدأ بتفصحه. وأثناء فحص الضابط للبيانات ، نقل زكي عينيه الى مريم التي كانت تنظر إليه بمزيج من المشاعر: خوف ورجاء وفرح. كان وجهها شاحبًا وعليلا، وشفتاها ذابلتين. لقد كان المشهد مؤثّرا حزينا يُثير ألوانا من اللوعة والحسرة في نفسه. بصرف النظر عن يديها ووجهها ، لم يكن أي شيء من جسدها مكشوفا، ملفوفة في عبائتها كالملفوف واللهانة. وما لفت نظره أيضاً أن باطن كفيها كانتا مطليتين بالحناء.  كما كانت التقاليد تقضي في الأعياد وحفلات الزفاف. كأنها كانت تتوقع رؤية “بابا” عن قريب ، والتي ستأخذه بالتأكيد هذه المرة إلى العالم البعيد ، عالم الفراشات البيضاء المرحات.

كانت تحمل حقيبتها المدرسية الوردية بيمينها. تفطر قلبه لها. تملكته لهفة ورغبة عارمة لإحتضانها. لكن الحاجز البشري حال دون ما أراد. فخنقته العبرة وعقدت الدهشة لسانه. أما مريم فسالت دموعها غزيرة عبّرت عمّا في نفسها من لوعة وحسرة.

بعد أن أعاد الضابط جواز السفر اليه ، التفت جهة زينب متحاشيا النظر في وجهها واستجوبها:

“خانوم ، سيدتي، هل هذا الرجل زوجك؟” وهو يمد يده الماسكة بعصا الى زكي.

ثم طارت نظرته إلى الطفل الصغير: “انت اسمك مريم اليس كذلك؟ هل هذا الرجل أمامك والدك؟”

“نعم.”

“نعم.”

كانت للإجابتين الخاطفتين دلالة واضحة على صحة الصلة وشرعيتها ، اما بالنسبة لزكي فإن هذا ال”نعم” كان بمثابة تجديد البيعة له وأن زينب لا تزال تحبه، أمر بعث على الارتياح، إذ غمره إحساس راسخ بأن الثقة عادت إلى حد ما.

ثبتت العيون الآن على الوجه البني الداكن ونظارات الضابط الداكنة اللون ، في انتظار الحكم.

أخيرا التفت الضابط ، الذي  لمعت فوق كتفيه ثلاث نجوم فضية ، إلى زكي وقال:

“لكن هذا لا يكفي أيضًا.”

الرد المقتضب القاطع كان له تأثير الرمح في اللحم. كانت رصاصة قاتلة في صدر الأمل المنتعش في قلوب الثلاثة. ولكن الأمل بقي منوطا لما يلي من تفاصيل من خطاب الضابط. ولسوء الحظ لم يزد حرفا . ولم يبق سوى ان يستوضح زكي منه.

“سيدي، هل تسمح لي أن أسألك حضرتك لماذا لا يكفي؟”

فأجاب هذا بصوت عميق يوحي بضجر.

” أطلب منك أن ترني الوثائق التي تثبت تكوين العائلة، أي صلتهما بك، شمل العائلة. عقد زواج أوسند ولادة.”

تبادل زكي نظرات سريعة يائسة مع زينب. كان بإمكانهما قراءة مشاعر بعضهم البعض من تعبيرات وملامح الوجه ، وأن هناك شيئًا غير متوقع خطير ينتظرهم. ومع كل ذلك والخطر المحدق لمح في عينيها البنيتين الواسعتين وملامحها المنشرحة بارق من السعادة لرؤيته مرة ثانية وانها لا تزال متعلقة به وتعقد عليه الآمال وتضع كل ثقتها فيه رغم ما حدث.

دس زكي يده في حقيبته الصغيرة واخرج منها ورقة من الاوراق التي اعطته اياها العجوزة  ورفعها إلى الضابط الذي

أختطفها من يده، ورفعها أمام نظارته الثخينة ، وقرأ الكلمات بشفاه متحركة غير صائتة، ثم رفع رأسه ، وثبت نظره على زكي .

“وهذه أيضًا غير كافية. ” قال واعادها لزكي.

إذا كان ثمة إله موجودا ورأى وجه الصغيرة في تلك اللحظة، لكان قد تدخل على الفور وغير الامور لصالحها. كانت تهتز بعنف في تلك اللحظة وتجيل بعينيها الدامعتين الغائرتين على الوجوه فاغرة الفاه الى ان استقرت على وجه الضابط المتجهم. تراخت اصابعها من حقيبتها المدرسية الوردية فوقعت على الأرض دون أن يلحظها أحد. تلاصقت بخاصرة أمها بإحكام، تلوذ بها وتطلب الحماية،  وفي نفس اللحظة ترنو الى زكي بعينين غائرتين متوسلتين وأرسلتْ دموعا في صمت على خديها.

“سيدي الضابط، هل لي أن أسأل لماذا؟”  توجه زكي بسؤاله الى الضابط وقلبه يكاد يتصدع. ثم شرح له التفاصيل: “الوثيقة رسمية ، وهي تحتوي على البيانات الصحيحة ، بما في ذلك أسم الأم وابنتنا”.

بلا اي مبالاة او اكتراث هز العسكري رأسه وقال بحزم: “شهادة زواج. هذه ما أحتاج اليها ، يجب أن تريني اياها قبل البت في طلبك آغاى زكي.”

شعر زكي بغصة تعترض حلقه. الهواء غدا ثقيلا ، ودارت الدنيا امام عينيه دورانا.

كرر الضابط: “هل لديك وثيقة ثبوتية رسمية تثبت صلة القربى بينك وبين الخانم –السيدة- وطفلتها؟”

انتقلت عينا زكي إلى زينب، التي وقفت بلا حراك تنقل النظر بينه وبين الضابط في ذعر وهي ترى ان آمالهم تتبخر ببطئ لكن بثبات مروع، ثم اعادهماعلى وجه الضابط المتشنج قائلا له مستعطفا في محاولة يائسة:

“لقد قدمت المستندات الداعمة لما اقول صحيحة واضحة وقانونية. فأترجاك ان تنظر الينا بعين العطف والشفقة وانت تراهما بأم عينيك كيف وكم يتوقان الى لم الشمل بعد طول فراق وخاصة انهما تعيشان في بلدة حدودية كما تعلم-ضمن منطقة حربية.”

حدج الضابط في وجه زكي لفترة غير قصيرة. ثم نظر بعيدا. بدا عليه انه يفكر بالأمر. ثم عاد يقول باصرار وحزم:” لا أشك في كلامك لكن الوثائق لتي قدمتها لي غير كافية ، ربما تكفي وفقًا لقوانين البلاد التي جئت منها. أما بالنسبة لشريعتنا فلست لها زوجا الا بعد ان ترينا العقد الرسمي القانوني. ”

وهكذا زاد الضابط اصرارا على اصرار.

كانت الصدمة لا توصف. كانت مفاجأة عظيمة لدرجة أن زكي كاد ان يستسلم للأمر الواقع بعد ان لاحظ عبث المحاولة. كرّرزكي كلمة “شهادة” الزواج” في وجوم  في دخيلته. شعر للتو أنه كان ينبغي عليه أن يفكر في هذا الامر قبل مبادرة اللقاء.  طعنه الألم والحسرة في قلبه.

كان أثر الموقف المغلق مرئيًا واضحاعلى وجه زينب المضطرب. وكان الإحباط في عيون الصغيرة واضحا جليا بعد أن طارت فرحا في الوهلة الأولى من اللقاء التاريخي.

ساد القاعة سكون رهيب. تسلل هاجس مخيف تدريجيا إلى قلب زكي. خشي المزيد من تردي الموقف.  خشي ان يكتشف امرهم وعلاقتهما السرية ، لكنه سرعان ما استبعد الفكرة. ورفع رأسه الى الضابط فلمح على وجهه ملامح الغضب والاستياء.  ووقع ما كان يخشاه. صاح الضابط ونظراته النارية تلهبه.

“انت قد تكون مهربا.” ووجه رأس العصا الى وجه زكي

وقع الفأس على الرأس. داهمه الخوف. جفّ حلقه. جمد الدم في عروقه. وخنقت زينب صرخة كادت ان تنطاق.

“اخف عقوبة لهما هي اعادتهما الى الحدود.”

تلفظ العسكري الكلمات الاخيرة ضاغطا على كل حرف نطقها وهو يحدق كالنسر الجريح الى الام والطفلة التي زادت التصاقا بأمها وتنظر تائهة حزينة ذليلة منكسرة الى حقيبتها الوردية المنتفخة المنتصبة بقربها على الملاط.

شعر زكي بأن الارض زلزلت تحت قدميه. استطاع ان يلملم بعضا من عزيمته وواجه الضابط بشجاعة:

” أتوقع ان تصدر امرا بعقوبتي انا لا بعقوبة ام ارملة مسكينة وطفلة يتيمة.”

غمره في تلك اللحظة شعور لا متناهي من الإحباط واليأس والاستسلام لإرادة الله. رفع الى الضابط ولآخر مرة عينين متوسلتين، ولكن هذا لم يزد الا اصرارا: “إما شهادة زواج أو لن أسمح لهما بالرحيل معك”.

ساد صمت كصمت القبور دام لحظات.

علا صوت اشبه بالحشرجة من ناحية زينب، فتحت فاها تريد ان تدافع عن نفسها لكن الضابط نهرها قائلا.

” أنا أشك حقا في نواياك، خانم. لست الوحيدة هنا ، تحايلت علينا نسوة امثالك وجئن الى هنا ومثلن دور الهاربات من المعارك ثم تبين من بعد انهن ينوين اللحاق بعشاقهن في الخارج.”

كاد زكي ان يقع على الارض مغشيا عليه. انتقلت عيناه بيأس الى الطفلة فاذا بها تمسح دموعها ويملأ الرعب وجهها الشاحب والى زينب التي أرسلت دموعا في صمت على خديها وكانت تظهر خلفها نظرة حزينة منكسرة، حالها حال أية زوجة وأم أصدر القاضي عليها الحكم بالطلاق وبحضور الزوج.  وبعد سكوت رهيب صدر الحكم النهائي.

“يجب طردهما من المخيم على الفور “.

قال العسكري هذا واندفع خارجا دون اضافة كلمة.

وفي الحال اندفع جنديان الى الداخل وقادا الأم والابنة  الى خارج الغرفة،  ونهض آغا معروفي من مقعده في الممر ونظر الى زكي بحزن شديد. يبدو انه سمع ما جرى في المقابلة، ووقفا امام الباب لا حول لهما ولا قوة وهما ينظران مصعوقين الى العسكريين وهما يقودان زينب ومريم عبر طريق ضيق وسط عشب الحديقة إلى مركبة عسكرية كانت تقف في مدخل المبنى.

وقبل ان يصلوا الى المركبة توقفت زينب وكلمت احد الجنديين الذي أوما لها بإشارة من يده وهزة خفيفة من رأسه، وبعدها انطلقت نحو زكي وقالت له مسرعة وبمسمع من مرافقه:

“حملت منك طفلة لكنني اجهضتها في شهرها السابع وذلك خوفا من ألسنة الناس. سامحني زوجي. أنا في انتظارك.”

شلت الصدمة جسمه من الحركة تماما.  لم يصطدم بخبر الاجهاض بقدر ما صدمه أمر ترحيل زينب ومريم. حنينه وتعلقه وشعوره الأبوي المسؤول تجاه مريم طغى على كل شعور وإحساسه بعقدة الذنب قضى على كل احساس. اظلمت الدنيا في عينيه فلم يكد يرى شيئا. وفقد الاحساس بما حوله الا ان حركة خفيفة افاقته من ذهوله وحيرته. رأى بصعوبة زينب ومريم تدخلان السيارة. ومن الباب إلتفتتا والقيتا عليه آخر نظرة وداع،  ثم اختفتا تماما وراء الباب الزيتوني المغلق.

*منذ تلك اللحظة حكم على نفسه بأنه هو القاتل. قاتل مثلث.

*

يتبع…