الهائم.. 74حكايا لـ مراد في زمن السبي والاستعباد! – صباح كنجي

 

 استلمت قبل أيام في مدينة اولدنبورك الألمانية.. من الصديق الكاتب (مراد سليمان علو).. نسخة من كتابه الجديد الذي حمل عنوان (الهائم.. أربع وسبعون حكاية)..

وهي نصوص مكتوبة بلغة متماسكة.. رغم بعض الأخطاء في التأنيث والتذكير.. ترصد حالات ومواقف توقف عندها الكاتب ليسبكها في نص ادبي.. ابداعي عبر حكايا.. قد تبدو لك في قراءة أولية انها قصة كتبت للأطفال واليافعين.. لكنها لا تخلو من الرمزية والدلالات الفكرية العميقة.. بلغة حوار تقترب من الفلسفة والجدل.. تتمحور حول الأحداث والتجارب الإنسانية في زمن القمع والضياع ومحنة التعرض للعنف والفناء..

يجري استعراضها وسردها وتذكر تداعياتها بعيداً عن الدعوة للبكاء والاستسلام للأحزان.. رقم قساوة احداثها المريرة.. والهول والخسائر الكبيرة التي يتعرض لها الأبرياء من الضحايا.. وهو منحى واضح في سياق أكثر من نص في المجموعة.. يمكن تشخيصه واستبيانه من خلال الجمل والمرادفات وحالات الصدمة التي تعرض شخوص الحكايا لها.. وردود فعلهم القوية والمتماسكة الرافضة للظلم الاجتماعي والشرور والعنف الموجه لسحق الانسان واستعباده.. وتدعو للتشبث بالحياة والقيم الإنسانية ورفض الممارسات الحيوانية.. التي يمارسها اشباه البشر.. من الغربان السود والملتحين المتسخين.. في إشارات واضحة للدواعش المبتذلين.. 

وتدين ممارساتهم وتكشف عن زيفهم.. وتتكرر الإشارات دون التسمية المباشرة لهؤلاء الأرذال.. بدءً من الإهداء.. الذي خصصه لضحايا السبي.. والتوطئة التي كررت الرقم 74 الذي ثبت في العنوان.. في إشارة الى الفرمانات الإسلامية.. التي تعرض لها الايزيديون في حقب تاريخية متتالية.. وغيرها من الإشارات الميثولوجية.. والأساطير التي وظفها الكاتب في سياق نصوصه.. التي تنقلنا تداعياتها بين دورات الزمن.. وتواريخ سابقة.. لتمر من خلالها الذاكرة على احداث وقعت في شنكال.. وبقية مدن كردستان التي نزح اليها الشنكاليون.. ليحشروا أجسادهم في زوايا عمارات ومباني غير مكتملة.. لكنهم يتشبثون بالعودة لديارهم.. ومساكنهم المهدمة والمحروقة.. التي استباحها الغزاة الدميون في آخر تقليعة إرهابية للدواعش المجرمين..

ليس هذا كل ما في النصوص.. بل هناك ادانة لرؤساء العشائر والمدعين ممن التبست عندهم الأشياء وما زالوا يتوهمون انهم قادرون على فرض ارادتهم على المغلوبين.. ويدعون انهم قدموا أموالهم للفقراء والمحتاجين من جمهور النازحين.. ويتصورون ان الناس تصدقهم.. يستهزئ الكاتب منهم ويسخر من ادعاءاتهم وأكاذيبهم.. ويصنفهم بالجبناء الفارين من المواجهة..

ويحتقر وجودهم ويستصغر شأنهم مقارنة بمن عاش الجوع.. وثبت على الموقف السليم في السلوك الإنساني.. وقدم آخر قطرة ماء من زمزميته لعطشان ينازع الموت ويقترب من لحظات مفارقة الحياة.. لا بل يتوقف امام تداعيات مؤلمة لمعوقة شابة وعجوز عمياء جمعت بهن سفوح جبل سنجار.. الذي توجه اليه الآلاف ممن تمكنوا من الإفلات من قبضة الدواعش.. واختاروا البقاء في الجبل متحملين العطش والجوع في لهيب آب.. الذي شكل يومه الثالث تاريخاً لا يمحى من ذاكرة السنجاريين..

هؤلاء الذين عكست نصوص (الهائم) تداعيات محنتهم المؤلمة.. وما رافقها من شموخ وصبر وتحدي وخصال إنسانية.. ساعدت ومكنت الكثير منهم من تجاوز آثار الصدمة.. التي مروا بها وواجهوها بشجاعة وتعقل مدرك.. كما هو الحال مع قصة الذئب والتيس.. الذي تمكن من انقاذ نفسه بدهاء.. مما كان يخطط له الذئب.. الذي كاد ان يفتك بالثور والكبش المرتعدان منه.. وحاول ضمان التيس لوجبة لاحقة.. لكنه فشل بعد ان رفض التيس الاستسلام.. مدعياً ان في احشاءه جرو مسعور متأهب للخروج لالتهام الذئب والفتك به إن أقدم الذئب على الاقتراب منه..

وهي حكاية تبدو بسيطة.. كأنها قصة للأطفال.. لكنها تفرز بعمق بين رؤيتين وموقفين متناقضين الأول يؤدي للاستسلام والإذعان.. والثاني يدعو للمقاومة والصبر والبحث عن طرق للنجاة ومواجهة الظلم والاضطهاد.. 

وهو منحى يتجسد في أكثر من حكاية ونص تجري فيه الأحداث برؤية مدركة لطبيعة واتجاهات الصراع في ثنائيات تجمع بين الفقر والغنى.. الجوع والشبع.. العلم والجهل.. الحقيقة والأوهام.. العقل والخرافات تصل في البعض منها للسخرية من إله عاجز وغير قادر على الإجابة على الأسئلة التي تطرحها النصوص..

من خلال شخصيات تتساءل عن معنى الوجود.. وتبحث عن الحقائق والأدلة المعرفية.. في سياق آخر يؤدي بك الى أجواء الفلسفة.. التي تعمق بها الكاتب.. واجاد توظيفها من خلال لغة سهلة على القارئ كأنه في محراب فيلسوف يسعى للهبوط من علياء السماء نحو الأرض.. ليخاطب الناس بلغتهم..

فيلسوف لا يتعالى على البشر.. مهمته نشر اليقين والمفاهيم الإنسانية بين الناس.. بعد ان تنكر بزي او قالب لحكيم.. كما هو الحال في حكايا (الحقيقة ص19 والخلود ص 20 والسجن ص21 والسمكة الحكيمة ص والحكيم والرياح ص29 25)..

وبهذه الرؤية التي يتمسك بها الكاتب في حكاية الطمع واليأس في الصفحة 32 من مجموعته يدعو القارئ.. ومن مر بمحنة قاسية الى عدم اليأس والتمسك بالعقل عند المواجهة في أصعب المواقف واخطرها.. ليس هذا كل ما في هذه الحكاية المشبعة بالسخرية من كل شيء حينما يكتشف القارئ الإله السكران.. الذي اختلطت عنده المقاييس والمفاهيم.. وأضاع حساباته.. فتشابكت عليه الحسابات وتناقضت النتائج.. لا بل حتى المفاهيم.. بما فيها مفهوم السعادة والفقر ومدلولاته..

ويمكن ان نتوقف عند جزئيات أخرى في هذه النصوص.. التي تحمل في طياتها نقداً لأوهام الأديان والأساطير المهينة لكرامة الناس.. وتنتقص من النساء وتجعلهن مجرد ضلعاً من اضلاع الرجال.. لكنهم ويا للسخرية رجال.. حتى لو كانوا انبياء ورسل وامراء ووزراء واغنياء اقوياء.. لا ينتجون الا القذارة التي تتخلص منها النساء “الضعيفات ” هذا الضعف الذي يرفضه الكاتب ويدين من يسعى لاستغلال وضع المرأة واستعبادها.. وهنا إشارة واضحة لما اقترفه الدواعش بحق النساء في حكايا أخرى ما عدا التي حملت عنوان (النساء ص 42) ويمر من خلال الزمن على حريق بابل ومخلفاته.. ويتوقف عند تحولات الخبز والمتغيرات.. التي تفرزها التكنولوجيا مع الزمن.. وانعكاساتها على الأجيال من خلال تسلسل عائلي يتوارث مهمة اعداد الخبز بأشكال وطرق مختلفة تفرز نتائج متباينة..

وهكذا مع بقية الحكايا التي توظف الميثولوجيا لإيقاظ الوعي وتدارك الأخطاء.. كما هو الحال في حكايا (روحي وقلوبي السبعة ص53 والملاك الكبير ص 56 وناقص عقل ص 60 ووادي الجنون ص 62 واسطورة فتاة شنكال ص66 وفرمان الصعاليك ص69)..

ثمة أيضا الكثير من التساؤلات في هذه النصوص.. وهي تساؤلات تعكس أهمية الوجود الإنساني الذي دعا اليه الكاتب في حكاية (الشاعر الأعمى والفيلسوف الماكر وأنا ص 79) ليكون شيئاً في هذا الوجود حيث يرد في النص (إن أردت أن أقارن شيئاً بالأشياء، عليّ أن أكون شيئاً، لأصبح سيّد الأشياء).. كما هو الحال في حكاية (لماذا ص 82) التي نقتطع منها (لماذا دائما المرأة في مخيّلتنا مجرد جسد شهيّ؟)

وتتداخل في ثنايا النصوص أيضا الأسئلة وتترافق بالسخرية اللاذعة كما هو الحال مع حكاية (ألم الفقر) الذي تعتمد حوار بين شخصيتين.. وجرى تفسيره بالملك مقارنة بما يملك الأغنياء فيقول أحدهم ساخراً من الآخر المتأوه من الفقر (كيف لا تملك شيئاً؟ وأنت تملك الفقر أباً عن جد) ليكتشف المشتكي من ألم الفقر (وتملّكني فرح خفي بعد أن أدركت بأنني من ذوي الأملاك كالآخرين)..

 وبهذه الرؤية الواعية يواصل الكاتب من خلال نصوصه اللاحقة تصوير محتوى الصراعات الاجتماعية في حكاية (الطين والرخام ص89) التي ثبت من خلالها موقفه الرافض للزيف المرافق للغنى الذي ينتزع إنسانية البشر (طوال عمري كنت أستر عوزي بكبريائي، كي لا يبان ضعفي، وكنت أرى ضعفي وحاجتي ينقلبان إلى قوة وميزة، فأدركت أن الكبرياء زيف، والضعف حقيقة) وفي سطر آخر (زرت العديد من خيام النازحين، وكنت أخرج مصدوماً لما جرى لأهلي من مصائب وأهوال، وما أن أنزع حواسي حتى تتحول دهشتي الى إعجاب بهؤلاء الناس الأقوياء) و (إن رأيت الشوامخ في المدينة لا تحكم عليها بنظر عينيك، وإن تنقلت بين الأكواخ في القرية انظر إليها ببصيرتك)..

الكاتب مراد سليمان علو في نصوصه التي حملت عنوان الهائم يواصل في عطاءه الإبداعي الجديد حمل رسالته الإنسانية.. ويدعو من خلالها في حكاية (الإنسان والأرض ص88) الى:

 (عندكم الأرض أهم من الإنسان، تضحوّن بالإنسان من أجل الأرض وتنسجون حولها الحكايات، وعندي الإنسان أغلى من الأرض)..

وبهذه الرؤية ايضاً قرأت وتابعت بقية نصوصه بمتعة لأقول.. ان حكايا الهائم تستحق التقدير والثناء.. شكراً لهذا الإهداء الثمين..

ـــــــــــــــــــــ 

صباح كنجي

29/10/2022