نصوص للتأمٌل …. النص الثاني – الدكتور صادق إطيمش

 

على الصفحات 11 و 12 من الكتاب اعلاه (راجع النص الأول).

“” لم نٌدرك منذ وقت مبكر حجم الدور الذي قامت به العقيدة الدينية بإدامة وحشية البشر في التعامل مع بعضهم. وهذا ليس بالأمر المفاجئ، طالما ما يزال الكثير منا يعتقدون بان الدين هو حجر اساسي في حياة الإنسان. إن ما يعزل الدين عن جدل النقد العقلاني خرافتان، وهاتان الخرافتان تعززان موقف التطرف الديني والإعتدال الديني على السواء.

الخرافة الأولى تقول بأن معظمنا يؤمنون بوجود مردود حَسِن يحصل عليه الناس من الإعتقاد الديني لا يمكننا الحصول عليه من مصدر آخر، ومن امثلة هذا النتاج: المجتمعات المتماسكة القوية، السلوك الأخلاقي، التجربة الروحية.

اما الخرافة الثانية فتقول بأن الأعمال الشنيعة التي يجري إقترافها باسم الدين ليست نتاج الدين ذاته بل انها نابعة من طبائعنا البشرية الأساسية ـ كالطمع والكراهية والخوف ـ التي تٌمثل العقائد الدينية علاجها الأفضل وربما الوحيد.

بجمعهما سوية يبدو ان هاتين الخرافتين هما من اكسبانا مناعة تامة ضد انتشار العقلانية في خطابنا العام “”

المحطة الأولى التي ينبغي التوقف عندها في هذا النص تشير الى مسألة العنف

في الأديان وما ترتب على هذا العنف من اجواء افتقدت فيها كثير من المجتمعات اجواء السلام الإجتماعي التي نالها الإرهاب والتعصب لهذا المذهب او ذاك او لتلك العقيدة او تلك. وحين مراجعة تاريخ البشرية بمجموعه، فسوف نتاكد من ان هذه الظاهرة لم تقتصر على دين معين، بل انها تكاد تكون ظاهرة ملازمة للعقيدة الدينية، سيما تلك التي تنطلق من امتلاكها للحقيقة المطلقة التي لا وجود لها.

فلو تمعنا في النصوص المقدسة للأديان ، خاصة ما يسمى بالأديان السماوية، لوجدنا ان ما رافقها من شروحات وتفسيرات وتأويلات قد بلغ حجماً تجاوز، لكل منها، حجم النص الأصلي بعدة مرات. والملاحظ ان التطبيق اليومي لمحتويات النصوص الدينية غالباً ما يستند على النصوص الفرعية في الشروحات والتفسيرات والتأويلات التي لا يمكن اعتبارها إلا نتاجات بشر خاضعين للخطأ والصواب، هذا إذا ما انطلقنا من قدسية النصوص الأصلية وعدم خضوعها للإختلافات الناشئة في النصوص البشرية. وعلى هذا الاساس اكتسبت نصوص العنف في مخطوطات الأديان صفة المقدس الذي اضفاه البشر عليها ليبرر به نزعته الى التسلط والسادية التي سيكون لها نصيباً اكبر من النجاح لو ربطها بنص او تأويل او تفسير ديني. وهذا ما يعكسه الواقع المعاش اليوم في جميع المجتمعات التي تعاني من هخذه الظاهرة، وما يرتبط به من وقائع تاريخية وما تمخض عنها من ممارسات جعلت القوى التي مارستها تواجه الكثير من الأسئلة التي يطرحها الإنسان المعني بالأمر والباحث عن الحلول الناجعة لمشاكله اليومية التي لم يتوقف ازديادها يوماً بعد يوم. وفي مقدمة هذه المشاكل الربط المحكم الذي بلورته بعض التوجهات الإسلامية بين الإسلام والعنف حتى اصبحت مفردة العنف والإرهاب وكأنها سمة الدين الإسلامي وتابعيه جميعاً دون إستثناء، إذ ان البعيد عن هذا الدين لا يمكنه ان يميز بين اطرافه المتناحرة التي يذبح بعضها بعضا. العنف الذي لا يمكن ان ينسجم مع اي خطاب يدعو إلى الحرية واحترام الراي الآخر، مهما كانت طبيعة هذا الخطاب الذي تبنته قوى الإسلام السياسي على مختلف فصائلها وبأساليب شتى.

اما المحطة الثانية فتتعلق بالزعم القائل بان العنف الذي يجري توظيفه ضد الآخر المختلف لا علاقة له بالدين، وطالما نسمع عبارة ” الدين منهم براء” للإشارة الى الإرهابيين الذين يقترفون جرائم العنف هذه.

كثيراً ما نسمع هذه الجملة التي تشير الى بعض الأفعال او بعض التصرفات المرتبطة بالقول او الفعل او الإثنين معاً. ومن نافل القول ان نذكر بان مثل هذه الظواهر موجودة في كل دين وتشكل ممارسات في كل مجتمع من المجتمعات وكثيراً ما يصفها ممارسوها او المقتنعون بها على انها دينية.

إن ما يهمنا الآن ليست تلك الممارسات التي تشكل جزءً من حياة الشعوب الأخرى، بل تلك التي تغزوا مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، خاصة في السنين الأخيرة التي بدت فيها سلطة الإسلام السياسي الإستغبائية اقوى بكثير من سلطة مَن تعتبرهم هذه المجتمعات يتحملون مسؤولية التوجيه الديني والإرشاد الملتزم بتعاليم لا بخرافات او سفسطات لا يقبلها اي عقل يعي طبيعة الحياة اليوم في القرن الحادي والعشرين.

تتردد عبارة ” والدين منهم براء ” في وطننا العراق ، بشكل خاص ، على تلك الإطروحات التي تمَيَزت بها الأجواء العراقية بعد سقوط دكتاتورية البعث التي مارست هذه الخزعبلات حين شعورها بالدنو من الهاوية التي حاولت الإبتعاد عنها بما سمته بالحملة الإيمانية التي جعلت من الدين سلاحاً آخر تضيفه الى اسلحة قمعها واسلوباً قذراً من اساليب ملاحقاتها الإرهابية.

وللإنصاف نقول ان الأجواء العراقية لم تكن جميعها بالمستوى الواحد الذي برزت فيه هذه الظواهر. ولعلنا لا نبتعد عن الواقع حينما نقول ان العامل المذهبي قد لعب دوراً في شدة او خِفة الظهور في وسط وجنوب العراق عنه في شمال العراق.

من المؤسف ان يجري التطرق الى هذا التصنيف المرفوض عملياً حين الحديث عن الوطن ودولة المواطنة وكل الشعب العراقي الذي يجسد هذه الدولة ويشكل كل فرد فيه مواطناً لا يفرقه الجنس او الدين او القومية او المنطقة عن المواطن الآخر على هذه الأرض الأم. إلا ان الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم تحت هذه الأجواء التي بدأت تزداد وتنشط بزخم اكثر لوجود من يغذيها بكل شيئ من ساسة دولة المحاصصات المقيتة التي تمارسها احزاب الإسلام السياسي ومساندوه من جهة ، ولعدم وجود قوى دينية تشكل مرجعية دينية تفرض ارادتها وتقف بوجه مثل هذه الممارسات ، التي هي ممارسات دينية بشكلها ومضمونها، وتمنع روادها من ممارستها والحد من نشاطاتهم التخريبية في المجتمع . إذ ان جُل ما نسمعه من المسؤولين عن الحفاظ على المسيرة الدينية في مجتمعنا هو التنكر لمثل هذه الممارسات والإشارة على انها لا علاقة لها بالدين وإن الدين من ممارسيها ،المعممين غالباً ، براء.

هذه الإشارات الضبابية غير المقنعة ، ترتبط بازدياد السيل الجارف من على منابر بعض المعممين والذي يهدف الى تمرير سيطرة الإسلام السياسي كونه يمثل مذهباً ما لابد من صيانته، لا من خلال العمل المسؤول والنزيه والمخلص من اجل الشعب والوطن ، بل من خلال خرافات تستغبي الناس وتحد من فاعليتهم في المجتمع ،تنطلق من تفسيراتهم الغبية لبعض النصوص الدينية اوتستند الى خلق الأكاذيب عن شخصيات او اماكن تتمتع بالقدسية لدى المشاركين في اللقاءات التي يقودها ويتصدر مجالسها هؤلاء المعممون المضَلِلون.

لذلك فإننا نرى ان خرافة ” والدين منهم براء” التي اكد وجودها النص اعلاه في كثير من المجتمعات التي طالها الإرهاب الديني، لا يمكنها ان تمر دون تفكيك القواعد والأسس الدينية التي تستند اليها والتي تسير بالمجتمعات نحو التفكك والتاخر عن ركب الحضارة الإنسانية، وهذه هي المهمة الأساسية التي ينبغي ان يتصدى لها التربويون التنويريون في مجتمعنا حيثما حلوا واينما عملوا.