آهات  تتكسر على  صخرة الحصار في رواية ( فراسخ لآهات تنتظر ) للروائي زيد الشهيد – جمعة عبدالله

 
   

  يكشف المتن الروائي بانوراما  محنة الحصار على العراق , ومعاناته المتشظية في نيرانها على كل بقعة من الواقع العراقي , وهو يشهد اتعس مرحلة متأزمة و مأزومة في تاريخه السياسي الحديث , في حكم بشع ومتوحش في تسلطه واستبداده الطاغي , في الاضطهاد والعسف  السياسي والفكري في النهج والسلوك والأخلاق , حين  تسلم  (عريان/  تسمية تشير الى صدام حسين ) , حكم لا يرحم لا البشر ولا الحجر ولا الشجر , هذه التراجيدية المأساوية جثمت على صدور العراقيين على مدى ثلاثة عقود عجاف في لوعتها وقسوتها في الظروف الصعبة والقاهرة  التي جعلت الوطن  يئن بآهاتها الموجعة . سجلت هذه بانوراما المأساة في الحدث الروائي ببراعة وسعة الرؤيا والافق ,  ومن شهود عيان احترقوا بنار لوعتها من خلال ثلاثة من المثقفين , يتميزون بالحس الثقافي والوطني والثوري , يمتلكون اطلاع ومعرفة واسعة بالإرث الثقافي والأدبي العالمي في مجال الشعر والرواية , التي سجلت حضورها العالمي وأصبحت من مخلدات الثقافة الانسانية  الحرة العالمية  ,في نظرتها المنفتحة على الحياة ومجابهة الصعاب والتسلط الاهوج , كما أنها  تمثل الضمير الإنساني الحي ,  أحداث السرد سجل من خلال تفاعل  ثلاثة من المثقفين هم  ( رسام وناقد وشاعر ) ورابعهم الكاتب أو شخصية السارد المتكلم , وجدوا أنفسهم محاصرين ومخنوقين داخل اربعة يسمى الوطن  , وما عليهم إلا كسر ارادتهم وطموحاتهم , ورفع راية الاستسلام والخنوع والذل والانصياع كالببغاوات  الى دولة ( عريان ) التي شيدها في العراق ,  وهي عبارة عن سجن كبير يمارس فيه  نهج الارهاب السياسي والفكري , ولكن هؤلاء الشباب المثقفين  , يملكون الحلم والطموح بالتغيير , يرفضون الانصياع والدخول في قطيع الخرفان التي  يقودها ( عريان ) وأعوانه , هذا الصراع القائم  في صوره  المتوحشة , في سبيل ان تكون الحياة مغلفة  بالاحباط والهزيمة , هذا الوصف والتسجيل والتصوير في فصول السرد الروائي , الذي توزعت فصوله المتداخلة  بين  الحصار داخل الوطن , والتشتت في المنافي الغربة , والعودة بعد سقوط نظام ( عريان ) كناطحة سحاب تسقط  كأنها  مشيدة من الرمال  , اصبح ( عريان ) عارياً كالجرذ بعدما خلع ثياب الاسد  , وبان حقيقته كجرذ مرعوب عارياً من الثياب  . ويعتبر السرد الروائي وثيقة تاريخية تسجل تلك الأحداث العاصفة في تلك المرحلة التي احترقت بنفسها ولنفسها , بسبب نهج التهور والحماقات السياسية الخرقاء , والوقوف بالضد طموحات الوطن في الأمان والحياة الكريمة , التي تحترم فيها قيمة وكرامة الإنسان , ويغور المتن الأحداث في اعماق الحصار الدولي , والحصار من قبل  النظام نفسه في نهج آلة القمع والارهاب, المعجونة بالمعاناة القاسية , لقد عانى هؤلاء الشباب الثلاثة ( عبدالرحمن / نقد . كمال / رسام تشكيلي . مبدر / شاعر ) لوعة الانسحاق الإنساني ,  من اعوان النظام في دولة المخابرات والأمن , عانوا السجن والاعتقال , والظلم والتشرد من أجل تجريدهم من إنسانيتهم , ليدخلوا  في قطيع كالببغاوات , وان تكون وظيفتهم مقتصرة على  التمجيد والتعظيم لشخصية ( عريان ) هذه النخبة المثقفة  تمثل مزايا المثقف الملتزم الاصيل ,  رغم الإرهاب المتوحش والبشع . ( كمال / رسام ). لم يتحمل وزر المعاناة وثقلها الجسيم , فانهى حياته بالانتحار بالغرق في النهر , تاركاً زوجته وعائلته في مهب الريح والمجهول  و( عبدالرحمن / الناقد ) لم يتحمل الواقع المأزوم بعد الاعتقال , أخذ طريق الهجرة والرحيل خارج العراق أول محطة اسطنبول لينتهي به المطاف في السويد  , وتبعه الشاعر ( مبدر ) والكاتب بطل السرد الروائي طفر الى خارج الحدود الى عمان / الاردن لينتهي به المطاف في طرابلس / ليبيا .  وأعوان ( عريان ) يمارسون دورهم القذر وهم يمثلون اقذر حثالات في  المجتمع  , جاءوا من حضيض القاع البئر العفن  , ليصبحوا أصحاب الجاه والمقام والنفوذ , يتحكموا في مصير الناس دون محاسبة وعقاب , ليمارسوا أفدح الاساليب الوحشية في دولة الأمن او العين الكبيرة , التي تحصي وتراقب  وتتصيد حتى أنفاس ولهاث الناس , في سبيل الإيقاع بهم في سراديب السجون وزنازين الموت  , مما يتركوا الناس في حيرة وارتباك والقلق على مصيرهم من هذه الحفنة من الذئاب الوحشية , هذه التساؤلات المربكة والحائرة والقلقة : الى أين مصير وماذا بعد؟  ( ما هذا الذي حدث ؟ لماذا ؟ …. وكيف تسببَ الجناة في تشويه وجه الوطن السمح الجميل ؟ وماذا جنت مدننا الحبيبة حتى ترتفع على جدرانها حواريها لافتات الكدر ؟ ولماذا غدت الشوارع صحفاً يومية يقرؤها الأتون إما بحزن مرير  أو سادية موغلة بالتشفي ) ص15 . لكن الواقع ينحدر الى لهيب  نار المعاناة القاسية , تحت رحمة القتلة والسفلة  , لا يعرفون سوى لغة  الشتائم والسباب باقبح اوصافها , وهم يعطون شهادات حسن السلوك , وتقسيم الناس بين الخونة لا يستحقون الحياة , وبين   أبناء الملائكة والامهات العفيفات والطاهرات , وليس هم من ابناء امهات عرفت بالبغي والعهر , حتى لا يعرفون من هم آباؤهم واسمائهم , وفي مقدمتهم ( عريان )   وهذه بديهية منطقية بأن  العاهر  يوصف الشريف بأنه  ابن العاهرة والزنى ,  وهم  في واقع الحال يقصدون انفسهم  بالتسمية ,  وليس وصم  الناس الابرياء ( لقد رمونا في رحم المنافي ثم راحوا ينهالون علينا بهروات شتائمهم ونعوتهم الجاهزة , فتارة نحن الخونة وهم صومعة العفة ! نحن القمامة على قارعة الطريق وهم ساحة الروض العاطر المفعم بالورود ! نحن أبناء العاريات اللاتي لا يسترن عوراتهن وهم أبناء الناسكات الطهورات حافظات فروجهن وساترات مؤخراتهن ! نحن الكلاب السائبة وهم أولاد الملائكة ! وكأنهم لم يأتوا من أوجار الثعالب العفنة وبيوتات العهر التي ضمت أمهاتهم , وتوزعوا بين آباء لا يعرفون أسماءهم ) ص48 .  ومنذ استلام ( عريان ) زمام مقاليد السلطة , زاد ممارسة  النهج الإرهابي يتصاعد وتيرته أكثر في دولة الارهاب لقمع حرية التعبير , بحجب الصحف  شكاوي المواطنين , بحجة أنها تعطي صورة سلبية للسلطة , وفتح النيران اكثر على المثقفين في نهج الإرهاب والترغيب , لمن لا يمجد القائد الاوحد ( عريان ) لا يستحق الحياة , نصيبه السجن والتعذيب والتشريد والابعاد .بهذا النهج المتسلط يقودون  العراق ( أيُّ خرابٍ قادوا إليه أولئك القتلة ؟ .. واية فجيعة يتجرع أهلنا مرارتها يومياً؟ .. ما معنى أن نظل نتطلع من بعيد ونراقب حارقين مهجناعلى اكتواء تتابعي , تدريجي سيقودنا حتماً الى الفناء ؟! ) ص162 . هذه الأحاديث تدور بين العراقيين والمثقفين ,  في وجعها المؤلم على الدوام , و تتوارد إليهم الأخبار بتشدد  القبضة الحديدية في الغوص في الإرهاب والتعالي والغطرسة المتوحشة . كأن المواطنين دمى  يلعبون بهم لعبة الموت والحياة  , لكي يتسلوا بانتشاء متوحش ( تتبري صورُ الصحافة تعرض أجساداً ممزقة وجثثاً متفحمة , ونيراناً تلتهم أحياءً برمتها , وفي المقابل نرى صورة لاحد قادة عريان آمر أحد الجحافل العسكرية برتبة كولنيالية يشرب ( الكوكا كولا )   أمام جثث بشرية ممزقة جمعت القتلى العراقيين والإيرانيين على السواء , عارضاً ابتسامة انتشاء  أمام  عدسة الكاميرا كما لو أنه ينتصب بين حقل زهور , لتؤخذ له لقطة تذكارية باحتفالية واحتفائية مزدوجة بينه وبين ازدهاء الطبيعة ) 212 . هذه حقيقة السلوك لمن يدعون انهم ابطال الامة العربية وحصنها المنيع ,  وحراس البوابة الشرقية  , ومحرري فلسطين عبر عبادان , وهم بنهجهم يمثلون عار للأمة العربية وفلسطين , فقد دفعوا الوطن من حرب الى حرب , ومن جهنم يليه جهنم آخر , والحياة تتعمق في ازمة مأساتها الدراماتيكية  و ( عريان ) لا يكف عن ارتكاب حماقات خرقاء , واكبر الحماقات العبثية المهلكة , التي لم يحسب لها حساب, هو دخوله الأحمق الى الكويت , كان فخاً منصوباً له , ليتحول العراق الى الضياع والتيه ( – في زمن الضياع يغدو الموت مجاناً .
– زماننا كله ضياع
– الصابرون نفذ لديهم صبرهم فاستعانوا  باليأس أمنية للموت ) ص285 . قدر العراقيين السيء , هي المعاناة في الداخل العراق , والتشتت في منافي الغربة . والسرد الروائي يتعمق في محنة العراقيين في الغربة عامة , وخاصة في عمان / الأردن , ويصبح الوطن لوعة الذكريات للاهل والاحبة والحبيبات والعاشقات , في حنين الشوق ( آ ….. أتذكرين ؟!
عند أزقة كفيكِ خبأت لثمي .
وعلى سهوب عنقكِ أودعت انفاسي .
أتذكرين ؟!
مستعيناً بخفقة صدركِ
جابهت الرحيل , ضممتهُ في ثنايا معطف
الصبر
رحلت وفي كفي قسمٌ من فم عينيكِ
بحتمية احمرار الورد , وشفاء الوطن
أتدرين بغيابكِ تناسل عسس السلطان ,
وتوالدت جحافل المستحيل
صارت الشوارع متاريس ) ص220 .
وعن معاناة العراقيين عامة , والعراقيات خاصة في عمان / الأردن , في حياة صعبة في ظروفها القاسية بالقهر , وكان تجمع العراقيين عند الغروب في الساحة الهاشمية في عمان , يتبادلون إخبار الأهل والوطن  , والظروف المتعبة للعراقيات الوديعات بالطيبة , يكافحن من اجل رغيف الخبز  ( عراقيات بوجوه موحلة أرى , يفترشن الأرصفة ويلذن من قلقٍ يتوقعن حدوثه أية لحظة , يبعن السجائر ويفترشن الورق المقوى , ثم يتخذن من منعطفات سلالم الفنادق ملاذاً لاجسادهن المتعبة , يرمينها عقد ساعة نوم هادئة وليل ينأ عن الهموم  ) ص276 . ويفتش عن حبيته ( نجاة ) ربما تكون بين العراقيات . ولكن الطامة الكبرى تأتي لتقصم ظهر الوطن , بعد انهيار نظام ( عريان ) كان امل كل العراقيين , بأن العراق سيقف على قدميه ويمحي الماضي البغيض ,وترجع الحياة من جديد في إشراقتها وكنس قمامة نظام عريان , ولكن هذه الامال  تحطمت بالفشل والخذلان . فقد جلب المحتل اقذر نخبة سياسية عفنة , من النفاقيات والقمامة التي جمعها المحتل وسلمها مقادير العراق , وهي لا تملك  ذرة من  الانتماء الى العراق , واطلقت العنان لعصابات القتل والجريمة والسلب والنهب , ان يتحكموا بالشوارع وفي مصير العراقيين , واصبح القتل والخطف والسلب بالمجان في غياب الدولة . والذين هفوا إلى حنين الرجوع من الغربة إلى الوطن , تجرعوا علقم الفشل والخذلان والهزيمة  ( – أخطأت كثيراً يا أخي بعودتك .
وأخطأ تقديرات  الحال , فتصور أننا نعيش كأحياء ) ص323 .
هكذا قدر الوطن من السيء  الى الاسوأ , والعراق يرقد على فراش المرض , دون أن يجد طبيب يداويه من علته
( الليلة
وطني يذهب الى السرير
يرمي رأسه المتعب على وسادة القلق
فلا ينام !
……….
…………
غداً تبدأ الحرب !!! ) ص 348 .