المخاض العثماني وانهيار الإمبراطورية • متواليات السقوط-  القسم ٥- وليد حاج عبدالقادر / دبي

بعد ان استقر جمال باشا في ولاية دمشق وفرض سيطرته بقبضة من حديد على مفاصل الولاية ومن هناك اخذ مساره العملي للهيمنة على الجغرافية العثمانية ، وهنا كانت روسبة هي المنطلق نظرا للعداوة المتأصلة بينها والسلطنة ، هذا الأمر الذي لم يخف على وزير الخارجية الروسي حينها سازانوف ، وليتم التواصل بينهما ، وكان جمال باشا صريحا ومقايضا جدا حيث فعرض شروطه على وزير خارجيتها سازانوف التي كانت واضحة ومعروفة ، وابدى رغبته بقيام  دولة دولة تركية حرة مستقلة تضم كلا من سوريا وبلاد الرافدين وارمينيا المسيحية وكيليكيا وكردستان كولايات ذات حكم ذاتي ويكون هو ( جمال باشا نفسه ) بصفة سلطان حاكما لها ، ويقابل ذلك  موافقته على على الطلب الروسي بالإستيلاء على القسطنطينية والدردنيل ، ولبيان حسن النية اقترح خطوات عملية وفورية  لمساعدة وانقاذ ممن بقي من الارمن على قيد الحياة ، وابدى رغبته في الزحف على القسطنطينية والدردنيل والإستيلاء عليها وخلع السلطان وان يصبح هو حاكمها ، وطالب لقاء ذلك ان تقدم له مساعدة مالية لإعادة إعمار بلاده بعد نهاية الحرب ، وطبيعي ان يتوائم هذه الطلبات مع رغبة الروس الذين وافقوا على ذلك ، واخذ وزير خارجيتها سازانوف يسعى لنيل موافقة حلفاءه ، ولكن كانت لفرنسا موقفا آخر ، حيث رفضت الإقتراح في آذار ١٩١٦ وأصرت على ان تمنح لها كيليكيا وسوريا الكبرى ، وقد ابدى وزير الخارجية البريطانية حينها ( سير ادوارد غراي ) موقفا غير مشجع لقيام اية ثورة او عمليات خلف خطوط العدو مقابل التخلي عن مكاسب مهمة في تركية الآسيوية اخذة في الإعتبار وعودها التي قطعتها لحلفاءها المتهافتين اصلا كانوا على اقتسام تركة هذه الإمبراطورية ، والذي اصبح عاملا في الأساس اربك ، لابل كاد ان يطيح باي توافق ، وليبدو وكأنه هو الهدف الأساس لا الإطاحة بالسلطنة ، وفي العودة الى عرض جمال باشا الذي وفر للحلفاء فرصتهم الكبرى والوحيدة للقضاء على الإمبراطورية العثمانية من داخلها ، إلا أنهم تجاهلوها واهملوها ، وكل هذه القضايا انخرط فيها جمال باشا وبقيت كل خطواته ومراسلاته السرية على حليفيه المفترضين انور وطلعت واللذين بقي جمال في صفهم ومقاتلة الحلفاء ١ . تسارعت الأحداث كثيرا بعد يوم ٦ أيار من عام ١٩١٥ عقب تنفيذ جمال باشا حكم الإعدام بمجموعة من السوريين ، واستطاع الشريف حسين وبفطنته ان يأخذ مبلغ (٥٠٠٠٠ ) جنيه ذهب من الباب العالي ، وبالتوازي حصل على الدفعة الأولى من بريطانية بزعم إعداد وتجهيز قواته و لتعلن الثورة فيما بين ٥ و ١٠ حزيران ١٩١٦ حيث تحرك الأسطول البريطاني على طول ساحل الحجاز ، الامر الذي اربك اسطولي تركيا والمانيا وحدت من تدخلها . ومع كل هذه الأحداث وتتاليها ظل المكتب العربي على اعتقاده بان الثورة ستلقى التاييد المطلوب ، وفي ذات الوقت ظن البريطانيون بأن الجيش العثماني اكثريته من العرب ، هذا الجيش الذي قدر بحوالي ١٠٠ ألف كان فيصل ووالده الحسين قد اقنعا الحلفاء بأن غالبيته سينضمون اليهم اي بما يعادل ثلث الجيش العثماني . ٢ ولكن الأحداث اللاحقة اثبتت للحسين بأن الرياح تجري لا كما يبتغيها هو ، وان الثورة التي ارادها لم تحدث ابدا ولم تنضم اليهم أية شخصية سياسية او عسكرية من الإمبراطورية العثمانية ، وكذلك القوات التي وعد بها الفاروقي الشريف حسين بدت انها خلبية كانت ، حيث قيل بأنه كان يأمل انضمام ما لايقل عن ٢٥٠ الف جندي اي مايقارب عدد جنود المقاتلين في الجيش العثماني ٣ ، ناهيك عن عدم انخراط عرب آخرين فيها ، ومما لوحظ ايضا فأن الشريف حسين لم يقطع اتصالاته مع جماعة تركيا الفتاة ، وقد ذكرت النشرة العربية في العدد ٢٥ تاريخ ٧/ ١٠ / ١٩١٦ نقلا عن عبدالعزيز بن سعود احد زعماء شبه الجزيرة العربية قوله ( يبدو ان الشريف حسين كان يهدف في الاساس ان يوغر صدر البريطانيين على الأتراك لكي يحمل الأتراك على منحه استقلالا تضمنه المانيا .. ) ٤ ، وبالرغم من اصراره على اعلان نفسه ملكا للعرب رغم التحذير الذي وجهه له رونالد ستورز والذي كتب فيما بعد : ( كان يعرف اكثر مما نعرف أنه لايستطيع ان يتقدم بأي ادعاء حقيقي أنه ملك جميع العرب ) وتبين لرونالدو ستورزدر ( .. أن ادعاءات الامير بالملكية تصل الى حدود المأساة والهزل ، وع ذلك فهو يشعر بأن على بريطانية واجب مساندته إلى أبعد مايمكن ، وفي الواقع فقد اصيب المكتب العربي بخيبة أمل شديدة لان زعامة الحسين فشلت في اثبات وجودها .. ) ٥ . ووسط كل هذه الأجواء والمتغيرات بقي برنامج الحسين الأساسي ثابتا وهو : الحصول على مزيد من السلطة والحكم الذاتي بصفته الأساس كأمير في الإمبراطورية العثمانية وان يكون منصبه وراثيا ، ورغم ان البريطانيين لم يكونوا قد اطلعوا او علموا بمراسلاته مع العثمانيين إلا ان آمالهم فيه مالبثت ان تبددت لاسباب اهم فقد توضح بانه ابعد بكاريزماه ان يكون قائدا لقومية عربية اخذت تتبلور حديثا ، بل هو مجرد حاكمولا يهتم مطلقا باية هموم قومية ، وجل هدفه هو ان يضم الى سلطاته اراض جديدة ، هذا الأمر الذي علق عليه ديفيد هوغارت ضابط المخابرات الذي كان يراس المكتب العربي بالقاهرة حيث قال بجفاء وسخرية ( واضح ان الملك يعتبر الوحدة العربية مرادفة لكونه ملكا ) ٦ . ومع إصرار الملك على اعتبار نفسه ملكا للعرب رغم تحذير رونالد ستورز  له بإسم القاهرة بان لا يفعل ذلك حيث كتب لاحقا يقول ( .. كان يعرف اكثر مما نعرف بانه لا يستطيع باي ادعاء حقيقي أنه ملك جميع العرب .. ) وقد تبين لستورز أن ادعاءات الامير تصل الى حدود المأساة والهزل ، ومع ذلك فهو يشعر بان على بريطانية واجب ( مساندته الى ابعد من ذلك.. لقد أصيب المكتب العربي بخيبة امل شديدة لان زعامة الحسين فشلت في اثبات وجودها ومكانتها ٧ . ولم تكن قد مضت ثلاثة اسابيع على إعلان الحسين الثورة حتى كان واضحا كما اسلفنا اعلاه بأن العالم العربي حسب وزارة الحربية البريطانية لاتسير خلف قيادة الحسين ، وقد ورد في مذكرة سرية كانت قد قامت الأركان العامة في وزارة الحرب البريطانية قد اعدتها لتطلع عليها اللجنة الحربية المنبثقة عن مجلس الوزراء بتاريخ ١ / ٧ ١٩١٦ بأن الشريف حسين ( .. يقدم نفسه دائما في مراسلاته مع المندوب السامي بصفته الناطق باسم الامة العربية ، ولكن ( .. بحدود مانعرف حتى الآن ، لم تؤيده أية منظمة عربية وليس هناك ما يضمن قبول الشروط التي وافق هو عليها قبولا آليا .. ) .. وبحسب ما استنتجته المذكرة أنه يتوجب على الحكومة البريطانية ألا تعتقد بأن الإتفاقات التي ( توصلت اليها معه سيحترمها الزعماء العرب الآخرون .. ) ٨  . في خلال سنة تقريبا وتحديدا بين عامي ١٩١٦ و ١٩١٧ ظلت الإمبراطورية العثمانية صامدة ، بينما انهارت حكومات اعدائها وذلك عكس ماتوقعها اعداء الخلافة ، حيث تمكن الجيش العثماني من تحقيق نجاحات خاصة في الدردنيل ، هذا الأمر الذي ساهم وبشكل مباشر في اسقاط حكومة رئيس الوزراء البريطاني اسكويت وكذلك حكومة قيصر روسيا وماتلاهما سقوط الحكومة الفرنسية عام ١٩١٧ ، الامر الذي افرز قادة جدد حكموا في العواصم الثلاث ، وحملوا معهم وجهات نظر متعددة حول الشرق الاوسط ومستقبلها ، مع الإقرار الأكيد ايضا بان آراؤهم تلك اختلفت تماما عن آراء الحكومات السابقة ٩

*  يتبع

هوامش

١ – صفحة ٢٣٨ – ٢٣٩ من كتاب سلام ما بعده سلام – المؤلف دافيد فرولكين ترجمة أسعد كامل إلياس ١٩١٤ – ١٩٢٢ مؤسسة الريس للكتاب والنشر ، والتي هي في الواقع تغطي المخرجات النهائية لاتفاقات لوزان التي لم تستطع ان تفعل مبادئ ولسون إلا كغطاء او عناوين بقيت فقط للذكرى ولم تفعل .

٢ – المصدر السابق صفحة ٢٤٦

٣ : المصدر السابق صفحة ٢٤٩

٤ – المصدر السابق صفحة ٢٤٨

٥ – المصدر السابق صفحة ٢٤٩

٦ – المصدر السابق صفحة ٢٤٩

٧ – المصدر السابق صفحة ٢٥١