المثقف بين الخوف والتحدي- كامل سلمان

جمالية الحياة بجمالية الناس وجمالية الناس بجمالية الأفكار التي يعيشونها وجمالية الأفكار يصنعها العقلاء والمثقفون ، المثقف الحقيقي هو إنسان صاحب رسالة إنسانية أخلاقية جمالية ، وهذه الرسالة تجبره على العمل الجاد لتوعية الناس وتوضيح ما يحيط بحياتهم من مخاطر و إدخال الأمل في نفوسهم ، فهو أكثر من إنسان داخل إنسان واحد هو أمةً في رجل . المثقف في مجتمعاتنا عكس المثقف في المجتمعات المتقدمة الحية التي من المفروض أن يكون فيها المثقف هو القطب من الرحى في حركة الحياة ، المثقف في مجتمعاتنا يخاف من مكاشفة المجتمع في تشخيص الحقائق المخفية التي هي سر معاناتهم وسر همومهم الكبيرة ، لعل المثقف أدرى بأن أصحاب النفوذ هم الذين يقفون وراء كل المصائب التي تصب على المجتمع فهو يخافهم وهم يخافونه لأنه الوحيد الذي يستطيع الإطاحة بكياناتهم الهشة وفضح سرائرهم ، هذا يخاف من ذاك وذاك يخاف من هذا ، والخوف المتبادل حرّم المجتمع من معرفة الحقائق وكشفها وحرمهم من البصيرة ، فظلت الحقائق مدفونة تحت الأوهام وظل المجتمع في سبات دائم يتحمل الآلام جيل بعد جيل وظلت الحياة راكدة نتفرج فيها على الأمم كيف تتطور وتسمو ونحن نتحسر على حالنا ،،، لقد قرأت كثيراً عن ثقافات ومثقفي المجتمعات المتطورة فوجدت فارقاً جوهرياً عند مثقفي تلك المجتمعات مقارنة بمثقفي مجتمعاتنا ، وجدت أن المثقف عندهم لا يخاف ولا يخشى أحداً عندما يلامس الحقائق فيطرحها بقوة ، لذلك نجد في تلك المجتمعات أصبح المثقف المفكر إنساناً ذو منزلة خاصة عند الناس لأنه وهب معرفته وعقله وثقافته وقادر على أن يهب حياته من أجل المجتمع ، وفي تلك المجتمعات أيضاً لا قيمة للمثقف مالم يك بمستوى الأفكار التي يطرحها ، فهو النموذج الأول لتطبيقها وهو من يبدع في إيصالها لعموم الناس ، بينما المثقف عندنا يعيش ويموت وهو نكرة ، ربما يعطف عليه التأريخ فيذكره مروراً عابراً .
لماذا يخاف المثقف ؟ المثقف عندنا يخاف لأنه مقدماً يحمل اليأس من تفهم المجتمع له والوقوف خلفه إذا تعرض للأبتزاز أو التهديد ، بمعنى أنه مهزوم إبتداءاً قبل أن يخوض غمار التحدي . يخاف لأنه لم يصل بعد إلى القناعة المطلقة بأفكاره التي يطرحها للناس ، أي أن مخلفات ماضيه والشوائب مازالت معلقة بأفكاره الجديدة ، يخاف لأن اعداء الثقافة في مجتمعاتنا بطشهم شديد ولا يرحمون ، يخاف لأنه يسعى طمعاً في الحياة أن يعيش حياة طويلة ليرى نتاج عمله وأفكاره ، في حين أن التأريخ يحدثنا عن معظم المفكرين من الطراز الأول لم يتذوقوا أبداً طعم نتاجات افكارهم وثقافاتهم وهم أحياء في جميع المجتمعات ، بل أن عطاءات أفكارهم نمت وأثمرت ونضجت بعد رحيلهم . المجتمعات التي تخلو من المعاناة والالام ستكون بالتأكيد خالية من رجال الفكر والثقافة الرفيعة ، دائماً صراع الأفكار عند المثقف أو المفكر تبدأ مع المعاناة وتستهدف من يتسيدون المجتمع ، فهؤلاء هم المعضلة الحقيقية التي تسبب دمار المجتمع وهؤلاء بأفكارهم وعقائدهم وثقافاتهم سبباً للتخلف والالام التي تضرب قلب المجتمع ، مواجهتهم تبدأ من مواجهة معتقداتهم ( بالتأكيد تكون معتقداتهم فاسدة ) وثقافاتهم وأفكارهم فاسدة ، وغالباً ما تكون معتقداتهم وأفكارهم هي نفس الأفكار والمعتقدات المتداولة عند الطيف الواسع من المجتمع ، وهذا هو سر قوتهم لأنهم يعملون على تغذيتها بإستمرار بمختلف الأساليب لكي تتغذى سلطتهم . أنا لا أتكلم من وحي الخيال ، فجميع أفكار المثقفين والمفكرين الذين أحيوا مجتمعاتهم كانت أفكارهم تستنبط من الواقع ، والواقع هو المخزون الذي يغذي الأفكار . لا يوجد فكر حي ناجح في أي مجتمع من مجتمعات الدنيا جاء من عالم الخيال ، ولابد من وجود معاناة وآلام ووجود فكر أو عقيدة متهرئة تستحق القلع والاستئصال فيكون نجاحه قد جاء على حطام فكر سابق كان يقود المجتمع ، واليكم بعض الأمثلة ، الإسلام جاء على حساب الجاهلية ، الرأسمالية جاءت على حساب الإقطاعية ، العلمانية جاءت على حساب الدولة الدينية ، النظام الجمهوري جاء على حساب النظام الملكي ، أي أن الفكر أو الطرح الجديد لا يجد له موطىء قدم وثباتاً في عقول الناس إلا على حساب الفكر السائد المتحكم بحياة الناس فيبدأ الفكر الجديد بطرح نفسه ثم تدريجياً يدخل الصراع مع الفكر القديم ليهزمه ويتربع على العرش حتى يأتي اليوم الذي يهرم فيه هذا الفكر مما يؤدي إلى صعود فكر جديد أخر قادر على أن يهزم هذا الفكر ، هكذا هي حركة الحياة . . أما من يريد تطبيق فكر جديد مع الإبقاء على الفكر القديم فهذا جهل كبير عند أصحاب الفكر الجديد ، وبالتأكيد سيكون الفشل حليفهم بلا أدنى شك ، لا تغيير بدون إستئصال الفكر القديم أو عزله ، الفكر العلماني لم يكتب له النجاح لولا إنه عزل الدين عن الدولة ودور العبادة عن دور العلم .
ثلاثة يجب أن لا يعرفوا الخوف ( المثقف والثوري والعالم ) فهؤلاء نجاحهم مقرون بالجرأة والتحدي والشجاعة ولا وجود لهم مع الخوف ، وهؤلاء لا يمكن أن يخطون خطوة للأمام مع الخوف ،،، عدم الخوف يعني الثقة والقناعة الراسخة بما تفكر وبما تعمل ولا تحتاج إلى المواجهة والدموية ، فهذا إسلوب بدائي لمن يبحث عن التغيير بالسيف والبندقية ، لأن أصل المشكلة هي عقول الناس وعقول الناس لا تخترقها السيوف بل تخترقها الأفكار .