لا نأبه بالأرقام حينما نبحث عما نواجه به عاديات الزمان واهوال ما يأتي به كل ما نسعى اليه لتبديد الظلام ونشر نور الحياة بكل ما افرزته بيننا من علم ومعارف وانتقال من عوالم الغيب الذي صوره البعض وكأنه قديس لا يناله الوهم ولا تخترقه العقول ولا يطارحه العلم ، الى عالم رؤيا اليقظة وتجليات الواقع، رؤيا مرآة حياة التنوير ومنابر الفكر الهادف لتحقيق ما ظل ينشده الناس بحناجر تغني للوطن الحر والشعب السعيد ، وستظل هذه الحناجر تشدوا وتشدوا ليتسجيب لها الوطن الحر وشعبه السعيد.
لا نأبه بالسنين وارقامها حينما نتوجه الى بيتنا لنلوذ فيه ونجدد معه سنين نضال وعقود كفاح لم تنل كبواتها من عزم ولم تثني عثراتها من إصرار يتجاوز مفردات قد يربطها البعض بكثرة السنين وتراكم اعباءها التي لم تنل من صرح بيتنا وملاذنا الذي لا نجد ملاذاً غيره حينما يضيق بنا الزمن ، ولا نصيراً سواه حينما تتزاحم فوق اكتافنا المعضلات .
نأتيك اليوم ونلوذ بك ، في عيدك التسعين ، بقلوب تشدوا اليك شدو الربيع الذي بشرنا بك مع زقزقة طيوره ، لنشكوا إليك غيبة ما أنت أعلم بحاجتنا إليه ، إذ أن سبيلك إلينا لم ينقطع منذ أن وُلِدت في الحادي والثلاثين من آذار عام 1934 ، لا بل وحتى قبل هذا التاريخ المجيد الذي حفرناه في قلوبنا ليعيش معنا ونعيش معه. في هذا الظرف العصيب الذي يمر به وطننا ويعاني منه شعبنا لتعيشه أنت أيضآ تحت ضرورة ألإرتباط الذي لا ينفك بينك وبين هذا الوطن وإهله ، نتوجه إليك لعلمنا بأن السنين العجاف الماضيات قد أفرزت ما أفرزت من الغث الكثير الذي لم ينفع الناس وسوف لن ينفعهم أيضآ إذا ما تمادى الغي في جبروته رافعآ رايات الطائفية والعشائرية والمناطقية التي برزت بينها رايات البعثفاشية متسترة في اول ألأمر وعلى مرأى ومسمع لا ينقصه التحدي الصريح لدم الشهداء في آخر المطاف . نتوجه إليك لنشكوك حيث قلَّ من يستجيب لشكوى البؤساء الذين لا حصة لهم في المحاصصات القائمة اليوم في كل مفصل من مفاصل حياتهم . البؤساء الذين تأبى نفوسهم الرفيعة وأخلاق تربيتهم أن يجعلوا السرقة والنهب والإحتيال على الناس سبيلهم حتى في إقتناء ولو ما يسد الرمق من أموالهم التي تُسرق أمامهم لتمتلئ بها بطون وجيوب ومصارف ومعارف كثير من ذوي الجباه الموسومة والأصابع الملغومة بالمفضضات والأحجار الكريمة واللحى المعفرة بالطيبات التي يكاد سوادها يحاكي سواد نفط العراق الذي تقتسم سرقته عصابات تبدأ نهارها بتوزيع مصادر الغنائم فيما بينها لتبارك ليلها بالحمد والثناء لما جاء به من مردود يومي هذا الميناء أو ذاك الينبوع النفطي أو تلك المنطقة الحدودية أو بعض المناصب الحكومية أو أي مصدر آخر من مصادر الرزق الذي لا يمكن أن يُسمى بغير الرزق الحلال الذي حلله إقتناء السلاح بكل ما له من سطوة وشوكة في أيام عز الجريمة هذه ، هذا الرزق الحلال الذي اباح لهم ان يزينوا ابواب عقاراتهم وقصورهم وابراجهم ومنتجعاتهم بألواح ذهبية تحمل عبارة ” هذا من فضل ربي “.
إننا إذ نشكوا إليك غياب ربيعنا ، يا وليد الربيع ، لأننا نعلم مدى عشقك للربيع الذي جاء بك كرسوله إلينا ، ولابد أن يحمل كل رسول رسالة لمن بُعث إليهم ، ورسالة الربيع هي التي رافقتك منذ أن حللت بيننا قبل تسعين عامآ ، لا بل قبل ذلك بكثير، إلا أننا لا نريد أن تحمل إلينا اليوم كل ما حملته لنا بالأمس . قد يكون ذلك صعب المنال اليوم ، وأنت الذي تعيش في وسط هذه المصاعب ألأليمة القاسية . إلا اننا نتوجه إليك ونشكوا إليك حيث عزَّت الشكوى بعد أن سُرق من كل ذي حق حقه من أموال أيتام المقابر الجماعية وسكنة السجون والمنافي وأقبية التعذيب والتغييب البعثفاشية والمهاجرين الذين لا نصير لهم حتى بعد سقوط ألأصنام التي إستمرت على التوالد والتكاثر لا بالإنشطار وحسب , بل وبالإنصهار أيضآ حيث إختفى الزيتوني البعثفاشي ليفسح المجال أمام ألمليشياتي ، فكانت ألأصنام الجديدة التي تجاوزت ما قبلها في كل شيئ، مستفيدة من أخطاء وخطايا ما سبقتها من ألأصنام . إننا نشكوا إليك غياب ربيعنا الذي خلف لنا مآسي وآهات نريدك أن تساعدنا ، ومن معك من ألأخيار الطيبين ، على تجاوزها لنعيش فعلآ ربيعنا مع ربيعك في اليقظة لا في المنام .
لقد فقدنا الهوية التي كنت تريدها لنا منذ أن حللت بيننا يا وليد آذار الربيع . مَن يسير اليوم على أرضنا لا يجد سوى الإستهزاء بهويته العراقية التي يصر على إقتناءها . هؤلاء الذين علمتهم أنت حب هذه الهوية وإشهارها حتى في أحلك الظروف ، لا هوية لهم اليوم بين البدائل الجديدة . الهوية العراقية أصبحت اليوم تئن تحت سياط هويات غريبة لم تعرفها ألأجيال التي أردتها أن لا تحمل غيرها ولا تتباهى بسواها ولا تنتمي إلا لها . الهويات الطائفية والعشائرية والمناطقية والمذهبية والحزبية والمليشياتية والعنصرية أصبحت اليوم تغتال هويتنا ، الهوية العراقية ، صباح مساء ولا من ناصر ولا معين .
لقد غاب ربيعنا عنا منذ أن غاب عن أرضنا ما تتمتع به شعوب ألأرض المتقدمة كافة حيث حلّت بأرضنا سيادة المليشيات كبديل عن سيادة القانون . سيادة الدولة وقوانينها الموضوعة من قبل الشعب وفي سبيل الشعب هي محك الحضارة والتمدن في القرن الحادي والعشرين من عمر البشرية . إن مَن يحترم ألآخر بحق لا بتحريك الشفاه فقط يرجو إحترام هذا الآخر له أيضآ . أخلاق أصبحت من البديهيات بين الشعوب المتحضرة . إلا أن رواد حضارة القرون ألأولى من عمر البشرية يريدون فرض قيمهم البالية بقوة ألأنياب الهمجية التي يجيدون إبرازها أينما طاب لهم المقام ليسيل من بينها لعاب سمومهم وحقدهم عليك يا وليد الربيع وعلينا وعلى كل من يسعى إلى التطلع إلى الحضارة البشرية . دولة القانون في نظر الوحوش المليشياتية ومراكزها المنتشرة في الوزارات والمؤسسات وما يسمونه بدور العبادة , هي الدولة التي لا تنطق إلا بأسماءهم هم ولا قانون إلا ما يسمونه هم ، وكأنهم يريدون بذلك محاكاة صنمهم في موقفه من القوانين وتعريفه لها ، فلغة الخَلَف اليوم لا تختلف عن لغة السَلف بالأمس .
لقد غابت أنوار ربيعنا بغياب نور الفسيفساء العراقي الجميل ، هذا النور الذي أضاء لنا الطريق الذي علمتنا السير عليه سوية على مر السنين متحابين متعاطفين لا يفرقنا مذهب ولم نعترك فيه من أجل إنتماء ديني أو تمحور مناطقي . ولا ندري ماذا حلّ ببعض معتنقي دين ألأكثرية في وطننا حينما لجأوا ، سراً أحياناً وعلناً أخرى ، إلى التنكر لما يصفونه مبدءً اساسياً من مبادئ دينهم بعدم أللجوء إلى إكراه ألآخرين في الدين، وهم يحرقون ويهدمون معابد ألأديان ألأخرى ويقتلون من لا ينتمي إلى دينهم ولا يعتقد بما هم فيه يعتقدون، وتجاهلوا مقولة „لكم دينكم ولي ديني“ التي ما إنفكوا يرددونها في كل حين حتى فقدت مصداقيتها بينهم، وأساءوا إلى الفكرة التي يزعمون الإلتزام بها “وما أنت عليهم بوكيل” حينما تسلطوا على الناس ليقرروا لهم مأكلهم وملبسهم ومشربهم، وغيرها الكثير ألكثير مما وضعوه على الرف العالي ليجعلوا ثقافة الإكراه والقتل على الهوية واختزال الآخر في متناول أيديهم التي لم تعد تخشى إرتكاب أية جريمة بحق أي إنسان . لم يجعلوا من الدين سلاحاً للإقتتال فيما بينهم فقط , بل جعلوه سيوفآ مسلطة على الآخرين الذين لا يشاركونهم إعوجاج المنطق وضمور العقل وعمى الأبصار ، ولا مِن قاطع لدابرهم أو رادع لجرائمهم .
نشكوا إليك يا إبن الربيع قتل الربيع على وجوه أطفالنا وغيابه عن حياة شبابنا والتسلط بالعنف والإحتقار لنساءنا ونفوره من نفوسنا التي إعتراها اليأس من تحقيق الآمال التي بنتها على سقوط البعثفاشية . وهذا هو هُبل يهوى، دون أن تهوى معه سدنته التي كانت تحيط به . لقد ظلوا يجوبون فيافي وطننا ، بعد أن لاذوا لبرهة وجيزة في مخابئ عفنهم، لينالوا من كل ما من شأنه أن يقود إلى الربيع الذي حلمت أنت وحلمنا نحن معك به . عصابات الصنم التي غيرت جلودها ووجوهها ووسمت جباهها وزينت أصابعها ونقلت مساكنها من أقبية التعذيب إلى دور التوبة التي وهبها لها مشايخ صكوك الغفران، تعمل اليوم ما تشاء ، والقائمون على أمور وطننا يوسعون لها الطريق لإعتقادهم بأنها تمسك مفاتيح مستقبل بقاءهم أو عدم بقاءهم على منابع ألإثراء الذي إرتبط بالحكم في هذا الزمن الغابر من حياة وطننا وأهلنا . سنين عجاف كثيرة صبر المواطن العراقي على حرها وبردها ، على إرهابها وحرمانها ، على جوعها ومرضها وعطشها , على تهجيرها ونفيها وغربتها ، على عريها وتشردها , كل ذلك حصده ألإنسان العراقي، ويأتي من تحصن في موقعه المحاط بالحرس والحشم والخدم والمال والسلاح ، ممن من لم يملكوا شروة نقير بالأمس ، ليعظ الناس بالتقوى ويرشدهم إلى ألإيمان ويبرر المأساة بمأساة أفجع وأعظم حينما يشكو شحة الكادر وقلة الناصر وضيق يد الدولة وعدم قدرتها على إستبدال العناصر البعثفاشية التي وسّعَت أعشاشها في مختلف مفاصل الدولة، لاسيما وإن البعثفاشية المقيتة هذه تبدي تفهمآ أكثر من غيرها للصوص الملياردات وتسكت عن ألإنتهاكات الطائفية وجرائم المليشيات الدينية وعصابات ألإرهاب الإسلاموية ، بل وتشارك بها ، حيث أنها مارست جزءً ، نعم جزءً ، من هذه النشاطات لأربعة عقود من الزمن ولابد إذن من الإستفادة من خبراتها الفنية والتقنية في هذه المجالات الجديدة على أصحاب السلطة الجدد . يا لهول الكارثة وعِظم المصيبة , وكأن العراق قد فقد كل ما لديه من العلماء والمفكرين من بناته وابناءه القادرين على إعادة بناءه, لكي تظل مثل هذه الزمر تتحكم بمقدراته وتعبث بخيراته وتسرق ثرواته .
نشكوا إليك يا وليد الربيع عودة الجاهلية ألأولى فينا بما تبنته من وأد النساء وسبيهن وشل نصف مجتمعنا من الحركة خارج أسوار السجون التي بناها فقهاء الإرهاب في وطننا ليقمعوا بها أي تحرك قد يثير غرائزهم التي يسهل حتى على الحيوانات الوحشية التحكم بها والسيطرة عليها . المرأة , يا وليد الربيع , نصيرتك الأولى وحاضنة ألشهداء ومربية ألأجيال ورأس رمح النضال ألإجتماعي والسياسي والإقتصادي . ألمرأة العراقية الأخت والبنت والأم والزوجة ، الصديقة والزميلة والرفيقة يقتلها ويسبيها ويختطفها ويشوه وجهها ظلاميو الجاهلية الجديدة لأنها تأبى أن تعيش جاهليتهم وتتنكر لقرون الظلام التي لم تزل تعشعش في حياة المتخلفين عن القرن الحادي والعشرين فكراً وعقلاً وأسلوباً .
الهموم كثيرة يا وليد الربيع ، وبالرغم من ذلك فلابد من ألأمل الذي يجسده الوطن فينا كل يوم . فتاريخه ينبئنا بأن صلبان شهداءه تظل تشع دومآ نور الإصرار على هذا الدرب الذي لم يكن سهلآ يومآ ما . لقد خلفت البعثفاشية المقيتة أدرانآ في جسد وطننا الذي لم يرحمه من خلفها عليه . ولابد من التوجه إلى مَن أثبت في التسعين عامآ الماضية ويثبت كل يوم على أنه أهل للسير نحو تحقيق هذا ألأمل . ولابد من تكريس هذا التوجه اليوم والإعلان على رؤوس ألأشهاد بأن ربيع الوطن قادم لا محالة ، وإن وليد الربيع ، إبن الربيع , هو الساعي لجمع شمل من إكتوى بآلام العقود ألأربعة الماضية وما تلاها من السنين العجاف التالية , ليرفع مع الذين لم يسعفهم التغيير بما كانوا ينتظرونه من إنصافهم في شهدائهم وفي نضالهم ضد الديكتاتورية العاتية بالأمس والطائفية المقيتة والعشائرية المتخلفة والمناطقية المنبوذة والقومية التعصبية الرجعية اليوم. الجماهير تتطلع إليك اليوم ، يا وليد ألربيع ، لترفع راية الوطن وهوية الوطن والإنتماء إلى الوطن بعد أن تكاثرت الرايات التي تجاهلت راية الوطن وتعددت الهويات التي لم تعد هوية الوطن بينها وتشعبت ألإنتماءات حتى صار ألإنتماء الوحيد إلى الوطن مبعث السخرية لمن تنكروا له ومصدر الفقر والبؤس والحرمان من كل شيء لمن إلتصقوا به .
عيد التسعين , يا وليد الربيع , يذكي في نفوسنا نفس تلك ألآمال التي كنت تغمرنا بها كلما تلبدت سماء وطننا بظلام القمع والبطش والحرمان التي كنت وستظل تتصدى لها مبشرآ بربيع الوطن الذي لابد أن يعم هذه ألأرض الكريمة المعطاء وأهلها ألأخيار , فهي وهم زادك الذي لم ينضب ومنبع عطاءك الذي لن يجف .
الشمعة التسعين التي نوقدها في الحادي والثلاثين من آذار هذا العام ستضيئ لنا، مع شموع سنينك الخوالي الحافلة بالمجد والنضال الوطني , والمليئة بالفكر الإنساني الحر، طريق العراق الجديد الذي يصبو إلى من لم يجعلوا منه طريقآ للإثراء ولا سبيلآ لتكريس التسلط الذي مارسته البعثفاشية المقيتة بالشكل الجديد الذي سموه بأسماء لم نكن قد سمعنا بها من قبل .
فإليك أعطر تهانينا , ونحوك تشرأب أعناقنا , وعليك وعلى كل ألأخيار من حولك نبني آمالنا في أن تعيد لنا ربيعنا المفقود يا إبن الربيع .