ق 1
أجل ! هي رحلة العودة كانت ، ورحلة العودة تلك هي التي رسخت في ذهني مناظر ودروب بطرقات ومنها وعليها استقرت كل مشاعري ، هي الدروب حسينو عندما تعي غربتك عن نفسك أولا ! .. لا لا عندما تحاول ان تستعيد نفسك وبنفسك ايضا ، أجل حسينو ! هي إذن ذات التغريبة ونحن نطوف قرى وقرى ، وبالسؤال ومزيج من البشر والأديان ولأول مرة أصبحت اعرف من طراطيش بعضهم وباللغة العربية ، او ومنهم من كان يتكلمها مثل اهلي في الخيم المتنقلة ، وتبين لي بأن هناك مسلمون وغير مسلمين ، وهناك عرب وهناك كرد ، وكنا ذات عصر آخر بعد ان قضينا الليلة الماضية في القرية الأولى المختلطة الأولى ، حينما قال لي فرمان بان مقصدنا هي تربسبي ، وما ان وصلناها ، توجهنا الى بيت بدا لي كبيرا جدا ومميزا عن البيوت المحيطة ، وادركت بأنه بيت كبير القوم أسوة بالخيمة الكبيرة والمميزة لكبير القوم في مضارب من ربوني ، وما ان دخلنا تلك المضافة حتى قام كبير ذلك القوم يرحب بنا ، وكان واضحا بأنه على معرفة بفرمان خاصة حينما ناداه بإسمه ، وعرفت بعدها بأنه من كبار أغوات الكرد وإسمه حاجو آغا ، أما من هو حاجو آغا وماذا يمثل ؟ ولكنه وإن كان كبير قوم في محاربه ! فإذن أين هي خيمته المميزة ؟ و… جلسنا ، وبعد هنيهة ومع بدء الحديث واسترسال جدي في رده على حاجو آغا الذي كان يهزهز برأسه وعيناه مسلطتان علي ، أدركت بأن محور الحديث هو عني انا ، وما لبث الآغا أن نادى بعض من رجاله ليأخذونني ، ورغم الرهبة وبعض من الخوف ! تطلعت في وجه جدي ووجه فرمان والقلق قد اخذ يطوقني ، فتكلم معي احدهم باللغة العربية ، تعال لنذهب الى من هم في مثل سنك لتلعب وترتاح معهم ، ولكن عليك بداية ان تستحم لتخفف عن جسدك بعض من تعب السفر ، وبالفعل كان اول حمام بمعنى الإستحمام على يد واحدة من خادمات الدار ، ولازلت أتذكر الى حد الآن مدى حرقة ذلك الصابون الذي اوجع عيني من عميق فجوتها في راسي ، و .. ألبسوني لباسا ، وفي الحقيقة ولحد الآن لم ارتح ولم أر اجمل منها ، وعندما أعادوني الى المضافة كان النعاس قد تملك مني ، لابل وبدوت وكأنني لم أنم منذ دهور ، حقا لم أفق ؟ ولم أدر الى متى ؟ فقط عندما استيقظت كان شمس النهار التالي قد تسلل الى المضافة من شبابيكها الكبيرة وكان قد مضى زمن طويل حينما عرفت بأنها على ارتفاع مترين وعرض متر ونصف ، وكانت الديكة مع رف من الدجاج وقطيع من الديك الحبشي ، تسرح وتمرح في الساحة الواسعة الممتدة امام الدارة الكبيرة ، وهنا علي ان الإقرار بأنني على صوت هيجان تلك الدمية وصياحها الاشبه بالزعيق قد استيقظت ، نعم كان جدي وخالي وبعض من الضيوف ايضا جالسين ، وجيء لي وبشكل خاص إفطار وكان هناك بيض مسلوق ، ولبن وقشطة وخبز اعلم انه خبز التنور ، وأنا الطفل قد خرجت من مضارب اولئك الناس الطيبين ، ولاول مرة أرى افطارا وقد رتبت في صينية أو سفرة كما يقولون ، وذلك الماء الرجراج ذي اللون الذي لا أستطيع تحديده وما هو ؟ تأملت السفرة وتطلعت صوب جدي الذي كان منهمكا في حديثه باللغة الكردية ، وفقط حينما انتبه لي احدهم ويبدو بانه واحد من الذين يقومون بخدمة الضيوف في المضافة ، كلمني بالعربية وقال تقدم نحو الصينية وتناول فطورك .. تناولت بيضة لم تكن مقشرة ، ومن ثم قشرتها وأكلتها من دون خبز ، تقدم مني فرمان وتناول رغيفا من الخبز وناولني قطعة منه وقال لي بلغته العربية المكسرة : أنها لذيذة مع القشطة واظنك تعرفها للقشطة ! . هي أيامات حفرت في ذاكرتي ، لابل وكفيلم في كاميرا دقيقة وقد تتبعتني وهي تسجل شريطها ، و الى هذه اللحظة لم أنسى ظهيرة ذلك اليوم ، حينما بدانا نتدرج صوب قرى أخرى ، وكان فرماني بمبي في كل قرية او بقعة يذكر لي أسمائها ، وفي الواقع فقد بدت له تلك السهوب والدروب سهلة عكس بدايات انطلاقتنا من المضارب ، والاهم ايضا كانت غالبية تلك البيوتات معروفة له ، لابل ! فقد كانت لنا بين ساعات وساعات إطلالات على بعض البيوتات في تلك القرى إلى أن وصلنا إلى قرية لم تكن صغيرة ولكنها لم تكن بحجم تربسبي ايضا والتقطت فورا وللحظتها إسمها – كيشكي – والى الآن حينما امر بها او احوم حواليها ، لازلت اتذكر مفردات وثواني كما دقائق تلك الوقفة ، وايضا تتوالى في دواخلي سرياليتي ولتتوه مني بعض من سرديات اللغة وإن وجدت قلة ممن يسألني هل عطش انت وتريد ماءا ؟ ام جائع ؟ هل تريد ان تنام ؟ والى ماشايه ذلك .. وايضا التم من حوالي اطفال القرية وحاولوا بشتى الوسائل ايجاد أية وسيلة تفاهم وانسجام او حتى تبادل أية إشارة ! .. أجل حسينو ؟ هي الرهبة كانت وأيضا العودة القهقرى الى ذات البيئة التي لم اكن أدرك منها شيئا ، وإن كنت في صميمي أعلم بأنها هي النواة التي منها اشتقت خلايا جسدي .
كانت المرحلة التالية هي صدقوني أجل ! كانت المرحلة التالية هي من أشد المراحل ، فيوما عن يوم لابل ساعة عن ساعة ، كانت مشاعري تهيض بي ، فأنا بدوت كالمقتلع من جذوره ، لا بل كالمقتلع مرتين من جذوره ، اجل ! في الجذور الأولى لم أكن اعي شيئا ، ولم أكن مطلقا ادرك بأن لي جد او ان أبواي قد ارتحلا ، لابل وعيت وانا ادرك بأنني غريب عن هذه البيئة المرتحلة ومن ملافظ ابناء تلك البيئة ، لابل حينما كانوا ينادونني ب – حسينو الكريدي – او يا – كريدي – ؟ لم اكن مطلقا اعلم ماذا تعني كلمة الكريدي ؟ لابل كنت افكر لربما كما يقال ل – خليف – بأن السيد خليف هو ابن رزق ورزق هو ابن جاسم الذي هو ابن حمدان وهم من بعض أشهر العشائر العربية كما قيل لي ، وعليه فقد كنت أظن بأن ال – كريدي – هو ايضا اب لي ، وأم مجهولة ! من تكن ؟ والى الآن لا أدري ؟ لابل فقط هي كلمات الام سعدية .. نعم العمة سعدية و : هي إطلالات القمر عندما كانت تشع بدرا في تلك البيئة الصافية سماءا ، وحينما كانت تمطر ومن ثم ينقشع الغيم ويبدو القمر ، وكم من ليال قضيتها متقلبا في فراشي وأنا انتظر اكتمال البدر ونمو قرص القمر فأتاملها عميقا وأنا أبحث عن محياك أمي ، أجل ! كانت ايام جدا قاسية ، اجل حسينو ؟ كانت ايام جدا صعبة ، ويوم بعد آخر كنت ادرك تماما ، لابل أحس بأنني أقتلعت مرة اخرى من جذوري ، وهذه المرة كنت ادرك من كانوا ؟ نعم ! فأنا لازلت أتذكر تلك الغربة التي كانوا يحسسونني بها ! ولكنها ظلت جزءا هاما في تكويني ؟ أجل خليف ! ها قد مضت ثلاثة أيام او اربعة ، عجبا أين انتم ؟ هل مازلتم تنتظرون تلك الخراف المبعثرة ؟ أم البغال ؟ ام انكم تخططون رسوما على تلك الرمال ؟ ام انكم تتوقعون الرحيل ؟ بناءا على كلام أبيه في خلوته مع أمه ؟ .. ومن هنا ستبدأ التنظيرات ؟ أجل خليف ! منكم من يصمم بأنكم راحلون الى البعاج ومنها لربما الى أية بقعة ! لا لا .. ستقتربون إذن منها نهر الرد او هي بحيرة الخاتونية ولربما يكون حظكم قد دفع بكم اليها ، وهي ضفاف دجلة ومن ثم تنعرجون من جديد في تلك الدائرة تحومون يسارا وتلفون عينها ذات الدائرة ويبقى المركز خال قد تخترقونها حينا ولكنه خط سير كنا تعودنا عليها ، وهاهي اقداري وقد اخترقت الدائرة ، وكما قال جدك يا خليف لي : عد .. ها انت ستعود الى حيث كان يجب أن تعود .. أذهب ياولدي ؟ فأنت اصبحت منا ونحن اصبحنا منك وخيامنا كما صدورنا مفتوحة لك أنى رغبت ولدي ستلقانا وستلقى أخوة لك .. أجل خليف ؟ كم اشتاقكم ؟ كم اشتاقكم ؟ وتاملت ذلك الشبشب الذي تسميه صندل ، وكان كلام فرمان وهو يخاطب جدك قد ايقظك من سلسبيل خواطرك وأيقنت بانه يؤشر الى نهر وبجانبه ساقية والماء يتدفق منه وذلك الجدول الخاص وعرفت فيما عرفت بعدها بأنها قرية حياكا وبعدها قرية جلو ، وانكم ستحلون ضيوفا على قراش تلك الطاحونة المائية ، والذي كانت تجمعه مع فرمان صداقة قديمة ، اجل انه ذاته عمو علي القراش وبجذوره هو ايضا من جزيرا بوطان ، وكان يعرف جدك ايضا ، وعلمت فيما بعد بانه كان يعرف الراحل والدك وأن عمك گري من أعز أصدقائه ..
إذن هي بعض من فراسخ ولربما هي ساعات كما قالها فرمان ، ونصل إليك ياالمكان ، لابل ولربما تكون هناك محطة اخرى تبيتون فيها وستكونون في اليوم التالي كما هو مقرر ان تبيتا في عين ديور ولك فيها أقرباء كثر ، كما قالها فرمان بعباراته المتكسرة ، أجل هذه هي البيئة التي حوصرت ولكنها بقيت تتكلم لغتها الخاصة ، نعم حسينو ! كنت نائما عندما عبرتم ديريك ، هكذا قيل لك ، واستيقظت على مشارف جبال او أرض مرتفعة كنت قد لمحتها قبلا من الجانب الآخر وانت تخترق تلك الدائرة عائدا الى مركزها كما قيل لك الى حيث اهلك ، أجل ! كان الهواء قد بدا عليلا والارض رطبة ولون التربة مختلفة وبين الفينة والأخرى تلمح بساتين وانواع من الحشائش والأعشاب لابل كانت على ضفاف تلك الجداول والسواقي المصنوعة او التي هندسها ابناء تلك المنطقة ولربما لري او سقاية شيء ما ، كان الهواء عليلا ! نعم حسينو ! وكانت هناك اشكال لما هب ودب لمساكب متعددة ، قال لك جدك هاقد وصلنا ، نعم هي عينديور ، وفيها اخذتم استراحتكم وكان اليوم التالي حيث خاطبك جدك وادركت بأنه يطلب منك أن تتهيأ لالا ظل جدك يتأملك وإن أخذ يوجه كلامه لفرمان عساه يستطيع ان يوصلها لك مغزى ما يريد ! لكنها صعبت عليهما و .. بالصدفة مر من هناك رجل عرفت بأنه يدعى عزيز جان .. نعم ! نعم عزيز جان الذي قيل بانه يعمل ترجمانا لدى الجيش الفرنسي في قشلة عين ديور ، وما ان شرحا له الموقف حتى دنا مني وبلطف اخذ يمسح رأسي ولتطال أصابعه فتصل خدي الأيمن وخلت بأنه يريد ان يقرصني ، خفت اكثر .. أجل ولكنني مالبثت ان ادركت بانها حركة تنم عن تعاطف وحزن ، او تضامن وقال يخاطبني بالعربية : كن مستعدا ، غدا ستكون في بوطان ، وسترتاح كثيرا في بيت جدك حسين ، وستلتقي عمك گري الذي كان هنا أول أمس ، وابنة عمك هدية التي تكبرك وهي ستسعى بكل جهدها أن تعلمك لغتك ، لابل لا تستغرب أن تسعى هي لتتعلم اللغة التي تتقنها ، وفي بوطان هناك ملالي وفقهاء يقرأوون القرآن ويفهمون اللغة العربية ، ووضع كفه من جديد على رأسي ويحركها بلطف وحنينية وقال : ابتسم يابني ! .. إفرح فها انت قد عدت الى بيئتك ، عدت الى اهلك .. عدت الى احضان جدك وناسك .. و .. كانت انطلاقتنا هي مجرد تلة كنا فوقها .. أجل ! .. أجل حسينو .. كنت وجدي وخالو فرمان وكثيرون و .. هي المرة الاولى التي لمحت لا لا اقتربت من اناس بلباس خاص و .. قيل لي ان بعضهم من الدرك وآخرون هم من الجيش .. نزلنا على مهل من تلك التلة صوب الوادي ، ومن الوادي اخذنا نصعد تلة أصغر كانت ومنخفضة نسبيا من الاولى وايضا من التي تلتها وبان لي من زاويتها الشمالية الغربية نهر كبير كبير ، نهر يلف ويدور خلته في البداية وحش هو ، نعم يلف ويدور كما الثعبان و .. يلف ليكوع مجددا .. خفت في بادئ الأمر و .. لمحت بجانبي ضبة كانت تقف صامتة وتتأملني ، لربما تشتم في رائحة غريب في حين لم اعرها سوى بنظرتي الخاطفة التي كانت كافية لاعرف بأنها ليست مثل تلك الضباب التي كنا نراها .. ضباء الصحراء كانت تبدو لنا صغيرة ، حتى اننا في بعض الأحيان كنا نغمس ايدينا في الرمال نملؤها ونقذفها بها فتهرب ، إلا امثال هذه الضبة وبمهارة ، ولعلني اكون صادقا في توقعي ، لقد كان الخوف منها يبدو واضحا في محيا جدي وخالي فرمان .. هكذا بدا لي الأمر من اول وهلة و .. تبين لي بان الأمر متعلق بي وردة فعلي سيما حينما زحفت من امامنا تلك الحية الضخمة تجرجر جسمها وذلك الصمت المتوجس رعبا والحية لا تبالي حتى فينا .. تقدمنا في خطواتنا وهواجس تلك الحية لاتزال مخيمة ودوران محور عيون جدي وخالي وانا الذي اعتصر كل قدراتي لأنسجم مع هذه البيئة بتداخل انواع حيواتها وألملم تلك الحجرات المشذبة وسط تمتماتهما واتسلى برمي كل شيء يتحرك امامي .. محظوظ كنت انا .. نعم والله محظوظ انا حسينو ! فهاهي غالبية تلك الأجناس المتحركة تهرب على صدى وقع حجيراتي لتختفي بسرعة البرق بين جذور الحشائش المصفرة ، وبقايا أشواك كانت قد أصفرت او نباتات اخرى لم اكن اعرفها أو أصادفها قبلا .. تدرجنا صوب التلة الأخرى نصعدها وبدأنا هبوطنا من جديد صوب التلة الأعلى نصعدها ومع الإنحدار أشار لي خالو فرمان الى بيوتات ادركت بأننا على مشارف المكان الذي نسعى إليه ، ومن التلة الأخيرة انحدرنا صوب منبسط بدا لي أنه قد حوصر بين الجبال الشامخة وهذا النهر الثعباني بتكوعاته وهذا المنبسط من جديد و .. اول بقعة لمحتها وهاجس خفي كان قد بدأ يزحف الى جوانيتي ! لم ادرك السبب وان تقاطعت مع مشهد القبور الممتدة طولا وعرضا ، ولعلها بعض من انعكاسات صدى ما قيل لي عن تيتمي ! إذن هل هما أبي وأمي ؟ وقبرهما ؟ ام روحهما التي ترتج في وداخلي ! و .. كان قد مضى زمن حينما علمت بأن المكان هذا هو – مير آڤدلي – التي اصبحت مقبرة منذ ازمان سحيقة ، وهي في الأصل كانت بستانا كبيرا لإبنة أمير بوطان .. هكذا قيل لي فيما بعد ، وبمجرد وصولنا الى المقبرة وعبر جزر الأشواك وممراتها والقبور المتجاورة التي كان جدي وخالي يحاولان بشتى الوسائل ألا يدوساها ، وصلنا الى قبرين لازال لهما بقايا من أثر .. ووقفنا بجانبهما وبدأت مساعي خالو فرمان وهو يشرح لي وان كنت في الواقع ما كنت احتاج لاية تفسير سوى معرفة ايهما قبر بابا أو ماما .. و … ها أنذا والغربة كانت قد لفت بكل قسوتها تلابيب جسدي الطفولي وبقايا من احلام تبعثرت مع الرمال وها أنذا هنا وفي مقبرة مير آڤدلي وبجانب قبريكما أمي وأبي .. يااااه يا للطفولة حينها كانت حسينو ! وهاهي اللحظة اخيرا ! .. أماه .. أبتي ؟ .. عرفت.. اجل اعرف منذ اللحظة أنكما هنا .. نعم ! هما انتما ابي وامي تسكنان هنا وهذان القبران هما لكما .. أماه ! كنت ولازلت ارى ملمحك في كل قمر يشع بدرا .. ولكنك أنت أبي ؟! حاولت كثيرا أن ابكي فيسيل دمعي مع ذلك النهر الجارف ولكنها قد تكون الصدمة ، نعم الآن ادركها ؟! قد تكون الصدمة و .. هي الصدمة التي قد تكون أخرست في داخلي كل شيء حتى التعبير ولو بالدمع .. أجل حتى التعبير ولو بالدمع ..
…
غادرنا المقبرة وتسللنا الى طرقات كانت منتظمة نسبيا وببيوتات كثيرة وكان ذلك الجامع الكبير بحجارته السوداء المشذبة وذلك الطين الذي يصقل الأحجار ببعضها والذي لم اكن اعرف عنها شيئا ومن اين يجيء بها ، ومضى زمن الى ان علمت بانه جمنتو ، وما لفت نظري حينها ! لا لا حسينو ؟ هو هول تلك المنارتين العاليتين ! ووسط استغرابي ؟ قال جدي بلغته التي لم أفهمها .. نعم امام كل اندهاش كان هناك مداخلة او إشارة وكأني بجدي وخالو فرمان يهدفان بكل طاقتيهما إعادة ربطي واندماجي ببيئتي هذه ، من خلال استيعابي لكل تلك المدهشات كانت حقا بالمقارنة الى مسيرة حلي وترحالي تلك التي كنت اعيشها ، أجل حسينو كان جدي منذ لحظة احتضانه لي تحت تلك الخيمة في مضارب خليف وإلى اللحظة التي ارتحل كان اكثر من كشاف لكل دواخلي ، وما كنا حينها قد قطعنا الجامع حينما التفت إلي خالو فرمان وقال لي بعد ان اصغى لجدي وهو يكلمه في شيء ما : .. نحن الآن في – تاخا – حارة مير آليا وعلى هذا الركن مقابل باب الجامع الكبير هو باب بيتكم ، وهذا الدكان المغلق هو لجدك ، فإن تهت في أزقة بوطان ، قل لأي كان ، الجامع الكبير دلوني عليه حيث يقابله دكان جدي حسين احمدي حسين ، ألله ألله ! كم تغيرت فيك الأنفاس حسينو ؟ وتسارعت دقات قلبك ! إذن وانت القادم من أعماق تلك البيئة التي خلت انك منها وإليها ، وها أنت على مبعدة أمتار من دار سيكون هو كما كان دارك ! وجد أصر ان يكون ابوك كما كان أبا لأبيك ! وهي ابنة عمي .. نعم ابنة عمي گري الذي كان في رحلة لم أدرك بعد ، أو لم أفهم بماذا عنوا ؟ الى ان ذكروا اسم الموصل التي مررنا بها كثيرا ، هي ابنة عمي هدية التي كانت تكبرني بثلاثة وربما اربعة سنين ، وزوجة عمي ساييمة ام هدية التي اخذتني بأحضانها ووضعت فمها على شعر رأسي وهي تبكي وتبكي بحرقة موجعة وهي تقبلني وتقبلني وتستذكر إسما ! ولحد الآن ؟ هل تعلمون بأنه لم يستذكر أمامي إسم أمي ؟ والى الآن أصدقكم القول بأنني لا أعرف لأمي إسما ولا شكلا سوى صورتها التي تشع من بين ثنايا ضياءك ياالقمر ! وانت يا أبي الذي قيل لي كثيرا بأنه صورة طبق الأصل عن جدي ، اما عمي گري فقد طال موعد لقائي به لأكثر من اربعين يوما وهي حكاية أخرى .. نعم أدرك ذلك وها أنذا حسينو العطار وبغالي يبدو انها اشمئزت كثيرا فهوبراتي عمرها لن تغنيهم عن علفهم ابدا ..
…
* قسم من الفصل السادس لروايتي قيد الإنجاز .. يوميات حسينو العطار