المبادئ والمصالح فی “نموذج روژئاڤا”- د. عبدالباقی مایی

 

٣٠  تموز  ٢٠١٩

بعیدا عن السیاسة والتسییس المزیف الطاغی علی التقاریر و التحلیلات فی الإعلام و شبكات التواصل الإجتماعی فی منطقة الشرق الأوسط عامة وكردستان بصورة خاصة، هنالك تطور واقعی فی الأوضاع السائدة فی كردستان الغربیة “روژئاڤا” یستحق تحلیلا علمیا من الزاویة النفسیإجتماعیة. وهذا التطور یشمل المبادئ كما هو یظهر فی المصالح أیضا، لیس فقط بالنسبة لسكان روژئاڤا من كافة القومیات والأدیان بل أیضا فیما یتعلق بالأجانب المتواجدین فی المنطقة نتیجة للحرب الداخلیة فی سوریا التی تلت ثورة الشباب بسبب التعقیدات التی أوصلتها إلیها السلطات الحاكمة محلیا وأقلیمیا وعالمیا وكذلك عواقبها التی أتت ب”داعش” والحركات المتطرفة الأخری بتسلیح من قوی أقلیمیة و عالمیة.

 

لابد أن نذكر هنا بأن الكثیر من الأخبار و التعلیقات المذكورة أعلاه فیما یتعلق بذكر المبادئ والمصالح تفرق بینهما وكأن أحدهما یظهر معاكسا للآخر، أو بأنهما “بحران لایلتقیان” كما وصفها أحد الكوادر السیاسیین المهتمین بتطور الأحداث فی هذه المنطقة. وهذه النظرة مبنیة علی تفسیر سیاسی كلاسیكی للعلاقة بین هذین الحقلین. بینما فی الحقیقة یفترض بهما أن یكونا متلازمین بحیث أن أحدهما لایستطیع التواجد دون وجود الآخر، كما هو الحال بالنسبة لنموذج روژئاڤا. فالمبادئ تظهر عادة نتیجة للمصالح لدی غالبیة الناس المتواجدین فی وقت و مكان وظرف معین. أما إذا تم تسییس الأمور بصورتها السائدة حالیا لدی محترفی السیاسة فی الشرق الأوسط وكوادرها المتواجدة خارج حلبة الحكم والصراع فیصبح كل شئ سیاسة خاطئة. وبما أن هذا التسییس المزیف والشائع للأشیاء یجر بها إلی تعریفات وتحلیلات خاطئة فإن دمج المبادئ و المصالح بهذه السیاسة المزیفة یجعلها تظهر علی عكس ما هی علیها فی حالتها الطبیعیة والعلمیة السلیمة.

 

فی روژئاڤا ظهرت مبادئ ثورة الشباب إستجابة لمصلحة الشعب قبل أن تنبثق شرارة ثورة الشباب فی العالم العربی والتی تسمی أحیانا ب”الربیع العربی”. فقد إستوعبت الجماهیر المناضلة ضد العبودیة والإحتلال فی المنطقة مقومات وأركان النظریات الإشتراكیة قبل أن تتبلور حركات النشاط بین الشباب فی المنطقة متفائلة ومستوحات من النظریات النفسإجتماعیة المعاصرة للعولمة والتقنیة المتطورة. وهی لازالت تتمتع بهذا التواصل الجوهری والإرتباط الجدلی الأصیل بحیث لا یمكن لأی عمل أن یتفاعل مع الداخل أو الخارج إن لم یكن متشبعا بهذه المبادئ التی تتأقلم جدلیا مع مصلحة الشعب بعیدا عن المخططات والبرامج الخارجیة. وبما أن أكثریة سكان روژئاڤا هم من الكرد المسلمین فقد سادت المبادئ الدینیة أولا و الإشتراكیة فیما بعد، هذا لكون الأغلبیة الساحقة هم من الكسبة والمضطهدین من الكرد وغیرهم. فنشأت فیها أرضیة مناسبة لزرع الفكر الدینی أولا ومن ثم المبادئ الإشتراكیة المعارضة لهذا الفكر والمتناقضة معه لدی شعب روژئاڤا.

 

وبمجیئ الأفكار الجدیدة المبنیة علی الدیموقراطیة وحقوق الإنسان إلی المنطقة من خلال الشخصیات والمنظمات الوطنیة والتقدمیة من بین الشعوب المضطهدة تحت حكم الإحتلال والسلطات الدكتاتوریة والعنصریة القومیة فی المنطقة توفرت الظروف المناسبة لتربیة الأطفال علی المبادئ الجدیدة والتی تتخذ من الإعتماد علی الذات أساسا لجعل المقاومة برنامجا للحیاة الحرة الكریمة فتكونت شخصیة جدیدة للفرد إبتداءا” من الطفولة تعتمد علی المساوات بین الأنثی والذكر والمشاركة الفعالة لجمیع أفراد المجتمع فی عملیات صنع القرار علی جمیع المستویات، فخلقت جیلا جدیدا من المناضلین یجمعون المبادئ بالمصالح الیومیة للحیاة الحرة بعیدا عن الخوف والخجل والخطیئة. أصبحت الشخصیة الجدیدة سلیمة تۆمن بطاقاتها وحقوقها وواجباتها وتعتمد علی نفسها فی إیجاد الوسائل والأدوات المناسبة لتمشیة أمور الحیاة كافة من معیشیة وتربویة وتعلیمیة وصحیة ودفاعیة وسیاسیة…وغیرها.

 

هذا الدمج الجدلی بین المبادئ والمصالح یخلق المعجزات بإعتبار الطاقات الكامنة لدی الإنسان وقابلیاته علی التكییف عندما یتم الإنتباه لتربیة الطفل علی تلك الأسس لزرع القیم الجدیدة وتكوین الشخصیة السلیمة كما حدث فی روژئاڤا. هذه الشخصیة السلیمة تتخذ الإستقلالیة فی إتخاذ القرارات الیومیة و المصیریة فی جمیع المجالات، فتزرع بذور معرفة الذات والثقة بالنفس والشعور بالمسۆولیة فی نفسیة الطفل منذ نشوئه. وهذه الشخصیة السلیمة هی السبب الرئیسی فی جذب الثقة من جمیع الأطراف المتنازعة حولها لحمایة مصالحها بناءا علی مبادئها. والمبادئ تتغیر وفق تغییر المصالح لحمایة الشخصیة المستقلة لدی جمیع الأطراف ولیس العكس، أی أن المصالح متلازمة مع المبادئ لدی الشخصیة السلیمة فردا كان أو مجتمعا كما هو الحال بالنسبة لنموذج روژئاڤا الذی لایزال یصارع الصعوبات ویعبر الأزمات وهو حی دینامیكی مستقل فی قراراته یستمر فی االنمو والتطور نحو إستعمال السلم بدلا من العنف والذی نجح فی جمیع المعادلات لحد الآن فی الإحتفاظ بأرضه وقوته وعلاقاته بناءا علی مبادئه وتلبیة لمصلحة شعبه.